- الآية الرابعة:*
قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ﴾. [سورة الإخلاص: 1-2]
* روي عن داود بن القاسم الجعفري، قال: ((قُلْتُ لِأَبِيْ جَعْفَرٍ الثَّانِيْ "عليه السلام": جُعِلْتُ فِدَاكَ! مَا (الصَّمَدُ)؟
قَالَ: السَّيِّدُ الْمَصْمُوْدُ إِلَيْهِ فِي الْقَلِيْلِ وَالْكَثِيْرِ)).
إنَّ الرواية التفسيرية الشريفة تبيِّن مسألة مهمة تتعلق بالأصل الأول من أصول العقيدة وهو التوحيد وما فيه من مسائل جوهرية، ولأجل أنْ نكون على بينة مما ورد في الرواية وما تضمنته نحاول بيان موضوعين بإيجاز:
*- الأول: التوحيد وما يتعلق به.*
إنَّ فيما يتعلق بتعريف (الصمد) فقد ورد فيه تعريفات متعدد، منها:
* قال الراغب الأصفهاني: ((الصَّمْدُ السَّيِّدُ الَّذِيْ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْأمْرِ، وَصَمَدَ صَمَدَهُ قَصَدَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَقِيْلَ: الصَّمَدُ الَّذِيْ لَيْسَ بَأَجْوَفَ، وَالَّذِيْ لَيْسَ بِأَجْوَفَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا لِكَوْنِهِ أَدْوَنَ مِنَ الْإِنْسَانِ كَالْجَمَادَاتِ، وَالثَّانِيْ أَعْلَى مِنْهُ وَهُوَ الْبَارِيْ وَالْمَلَائِكَةُ، وَالْقَصْدُ بِقَوْلِهِ: ﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾ تَنْبِيْهًا أَنَّهُ بِخِلَافِ مَنْ أَثْبَتُوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ)).
إنَّ الراغب الأصفهاني قد ذكر الأقوال الواردة في معنى (الصمد)، وأشار في واحد منها إلى ما ورد في الرواية التفسيرية، وهو قوله (السَّيِّدُ الَّذِيْ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْأمْرِ)، فالأمر يمكن أنْ ينطبق على القليل والكثير الوارد في الرواية، فمن ذلك يمكن معرفة أنَّ جواب الإمام الجواد "عليه السلام" كان موافقًا للمعاني الواردة عند العرب في بيان المراد من (الصمد).
* قال الشيخ الطريحي: ((قِيْلَ: الصَّمَدُ الَّذِيِ ﭐنْتَهَى إِلَيْهِ السُّؤْدَدُ. وَقِيْلَ: هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِيْ. وَقِيْلَ هُوَ الَّذِيْ يُصْمَدُ فِي الْحَوَائِجِ أَيْ يُقْصَدُ. قَالَ بَعْضُ الْأَعْلَامِ: ﭐخْتَلَفَ أَقَاوِيْلُ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ فِيْ بَيَانِ الصَّمَدِ، وَأَوْلَى تِلْكَ بِالتَّقْدِيْمِ مَا وَافَقَ أُصُوْلَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَﭐشْتُهِرَ بَيْنَ أَهْلِ الِّلسَانِ أَنَّ الصَّمَدَ السَّيِّدُ الْمُتَفَوِّقُ فِيْ السُّؤْدَدِ، الَّذِيْ يَصْمَدُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيْ حَوَائِجِهِمْ وَأُمُوْرِهِمْ. وَفِيْ الْحَدِيْثِ "الصَّمَدُ الْمَصْمُوْدُ إِلَيْهِ فِي الْقَلِيْلِ وَالْكَثِيْرِ".... وَاللهُ هُوَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِيْ جَمْعُ الْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَصْمُدُوْنَ فِي الْحَوَائِجِ وَيَلْجَؤُوْنَ إِلَيْهِ فِيْ الشَّدَائِدِ، وَمِنْهُ يَرْجُوْنَ الرَّخَاءَ وَدَوَامَ النِّعْمَةِ وَالرَّفْعَ عَنِ الشَّدَائِدِ. وَالصَّمَدُ: الْقَصْدُ، يُقَالُ صَمَدَهُ يَصْمِدُهُ صَمْدًا: قَصَدَهُ. وَمِنْهُ الدُّعَاءُ "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ صَمَدْتُ مِنْ بَلَدِيْ")).
وعلى أساس ما تقدم من التعريفين للمراد من لفظ (الصمد) نرى أنَّ التطابق بيان ما ذكر في الرواية التفسيرية وما ورد من كلمات العلماء لبيان حقيقة هذا اللفظ العظيم الوارد في بيان واحدة من صفات الله تعالى الدالة على حقيقة المعبود، وما يجب أنْ تتوافر فيه من صفات خاصة لا يشاركه فيه أحد من المخلوقين.
*- الثاني: أقوال المفسرين.*
إنَّ المفسرين قد ذكروا فيما يتعلق بالآية المباركة أقوال متعددة، نذكر منها:
قال السيد محمد حسين الطباطبائي (ت1403ﻫ/1982م): ((الأصلُ في معنى الصمدِ القصدُ، أو القصدُ مع الاعتمادِ، يقال: صمدَهُ يصمدُهُ صمدًا من بابِ نَصَرَ، أي قصدَهُ، أو قصدَهُ معتمدًا عليهِ، وقد فَسَّروا الصمدَ -وهو صفة- بمعاني متعددةٍ، مرجِعُ أكثرِها إلى أنَّهُ السيِّدُ المصمودُ إليهِ، أي المقصودُ في الحوائجِ، وإذا أطلقَ في الآيةِ ولم يقيَّدُ بقيدٍ فهوَ المقصودُ في الحوائجِ على الإطلاقِ.
وإذا كانَ اللهُ تعالى هو الموجِدُ لكُلِّ ذي وجودٍ، مما سواهُ يحتاجُ إليهِ فيقصدُهُ كُلُّ ما صدقَ عليهِ أنَّهُ شيءٌ غيرُهُ، في ذاتِهِ، وصفاتِهِ، وآثارِهِ، قالَ تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، وقال وأطلق: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ فهو الصمدُ في كُلِّ حاجةٍ في الوجودِ، لا يقصدُ شيئًا إلا وهو الذي ينتهي إليهِ قصدُهُ، وينجحُ به طلبتُهُ، ويقضي به حاجتُهُ.
و من هنا يظهرُ وجهَ دخولِ اللامِ في الصمدِ، وأنَّهُ لإفادةِ الحصرِ، فهو تعالى وحدهُ الصمدُ على الإطلاقِ، وهذا بخلافِ أحدٍ في قوله ﴿اللهُ أَحَدٌ﴾ فإنَّ أحدًا بما يفيدُهُ من معنى الوحدةِ الخاصةِ لا يطلقُ في الإثباتِ على غيرهِ تعالى، فلا حاجةَ فيهِ إلى عهدٍ أو حصرٍ....
والآيتانِ مع ذلكَ تصفانهُ تعالى بصفةِ الذاتِ وصفةِ الفعلِ جميعًا، فقوله: ﴿اللهُ أَحَدٌ﴾ يصفهُ بالأحديَّةِ التي هي عينُ الذاتِ، وقوله: ﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾ يصفهُ بانتهاءِ كُلِّ شيءٍ إليهِ، وهو من صفاتِ الفعلِ)).
من خلال ما تقدم تكون الرواية التفسيرية للإمام الجواد "عليه السلام" واضحة البيان والبرهان على بيان المراد من تفسير (الصمد)، وعلاقة ذلك بإثبات وحدانية الله تعالى، وإنَّ كُلَّ ما ورد من أقوال المفسرين يؤكد ذلك.
|