إنَّ عقيدة رؤية الله تعالى هي عقيدة متطرفة، تُوجب تكفير وقتل كلّ مسلم لا يؤمن بها، رَغم عدم أصالتها، وأنها مُكتسبة من اليهود والنصارى الذين شبَّهوا الخالق بالمخلوق، وقد تبيّن للقارئ الكريم من خلال الحلقات السابقة أنَّ كلّ ما استدلُّوا به على إثبات دعواهم باطل لا يصحّ الاستدلال به، لاثبات هذه العقيدة، وسيكون البحث هنا حول دليلهم الخامس، والسادس؛ فمما يستدلون به على رؤية الله تعالى قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا الكهف: 110، فأوَّلوا اللقاء بالرؤية؛ قال الرازي: وكذا القول في جميع الآيات المشتملة على اللقاء(1).
ولنقاش قول الرازي يُقال: من العجب أن الرازي الذي زعم حمل اللقاء على الرؤية في جميع الآيات المشتملة على اللقاء، نراه يفسر اللقاء بغير معنى الرؤية، وذلك قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه(2). ثمَّ تراه يرمي غيره بأنَّه استدلَّ بهذه الآية على الرؤية، ويذكر ردّ المعتزلة عليهم الذي يكون أقوى من ردودهم، وهذا نص قوله:
استدل بعض الأصحاب بقوله: مُّلَاقُو رَبِّهِمْ على جواز رؤية الله تعالى.
وقالت المعتزلة: لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية، والدليل عليه الآية والخبر والعرف. أما الآية فقوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه [التوبة: 77] والمنافق لا يرى ربّه، وقال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68]، وقال تعالى في معرض التهديد: وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوه [البقرة: 223]، فهذا يتناول الكافر والمؤمن، والرؤية لا تثبت للكافر، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية.
وأما الخبر فقوله عليه السلام: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان" وليس المراد رأى الله تعالى؛ لأن ذلك وصف أهل النار. وأما العرف، فهو قول المسلمين فيمن مات: لقي الله، ولا يعنون أنه رأى الله (عز وجل)، وأيضاً فاللقاء يُراد به القرب ممن يلقاه على وجه، يزول الحجاب بينهما. ولذلك يقول الرجل إذا حُجب عن الأمير: ما لقيته بعد، وإن كان قد رآه، وإذا أذن له في الدخول عليه يقول: لقيته، وإن كان ضريراً، ويقال: لقي فلان جهداً شديداً، ولقيت من فلان الداهية. ولاقى فلان حمامه، وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12]. وهذا إنما يصحّ في حق الجسم ولا يصح على الله تعالى(3).
هذا وقد وردت آيات عديدة ذكر فيها اللقاء ولا يراد منه الرؤية، كقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 16]، وقوله تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ [المؤمنون: 33]، وقوله تعالى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ [السجدة: 14]، فالمراد من اللقاء هنا الحضور يوم القيامة للحساب، ولا دلالة فيه على الرؤية.
وأمَّا الدليل السادس الذي يستدل به مثبتو الرؤية على رؤية الله تعالى مِن القرآن الكريم فهو قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان: 20]
قال الرازي: فإن إحدى القراآت في هذه الآية، (مَلِكًا) بفتح الميم وكسر اللام، وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلَّا الله تعالى، وعندي التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها(4).
وللجواب على ذلك يقال: هذه القراءة شاذة، فلا يستدلّ بها على رؤية الله تعالى؛ لأنَّ الرؤية من المسائل العقائدية، فلا يستدلّ عليها إلاّ بالأدلّة القطعية، لا بالقراءات الشاذّة التي لا يحتجُّ بها على الحكم الشرعي، فضلاً عن العقيدة، وسِيَاق الآية يدلّ على أنَّه هو المُلْك بضمّ الميم وسكون اللاّم، وكأنّه سبحانه يقول: وإذا رميت ببصرك الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف، ومُلكاً كبيراً لا يُقدر قدره(5).
والآية نظير قوله: فَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً [الأحزاب/47].
وأمَّا الآية السابعة التي يستدلون بها على رؤية الله تعالى، فهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107]، قال الرازي: دلَّت هذه الآية على أنه تعالى جعل جميع جنات الفردوس نزلاً للمؤمنين، والاقتصار فيها على النزل لا يجوز، بل لا بدَّ وأن يحصل عُقَيْب النزل تشريف أعظم حالاً من ذلك النزل، وما ذاك إلا الرؤية(6).
والحال ليس في هذه الآية أيّ دليل على الرؤية لا مِن قريب ولا من بعيد، وادعاء الرازي في غير محله، وهذا وهم من أوهام الرازي، ومن اعتقد برؤية الله تعالى.
المراجع:
(1) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للرازي: 13/ 107 [سورة الانعام/الآية:103].
(2) نفس المصدر السابق: 3/47 [سورة البقرة/الآيتان:45و46].
(3) نفس المصدر: 3 / 48 [سورة البقرة/الآيتان:45و46].
(4) نفس المصدر: 13 / 108 [سورة الانعام/الآية:103].
(5) ينظر: كتاب (رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل) لجعفر السبحاني.
(6) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للرازي: 13/ 108 [سورة الانعام/الآية:103].
|