بمراجعة جدية لتركيبة الدين، سنجد مرونة كافية تتيح للمؤسسات الدينية التطور بالشكل الذي تحافظ فيه على جوهر الرسالة من جهة، وهي تستعمل أساليب حديثة بعقلية الجيل الجديد من جهة أخرى؛ هذه الطريقة تميّز بين الشكل والمضمون، أو بشكل أدق بين الذاتي والعرضي أو الثابت والمتحول في مفهوم الدين.. أي خلق التوازن بين المنظومة الأخلاقية والمنظومة الفقهية، هذا التوازن الذي يستند على فهم طريقة تعاطي القرآن الكريم مع التشريع، حيث تحيلنا حزمة الآيات القرآنية التي تستعمل صيغة (ويسألونك عن... قل..) توضح بأن التشريع يبدأ من حاجة واقعية للإنسان، من ولادة سؤال جديد يستوجب جواباً جديداً، أي نستنتج هنا بأن الشريعة صامتة أصلاً وإنما تتحفز وتنطق بعد أن تُثار بسؤال جديد يجبرها على أن تتحرك وتتحول إلى شكل يتلائم تماماً مع شكل السؤال.
يتحتم علينا الآن العودة لفلسفة العلم لكي نجد الترابط الكوني مع هذا الموضوع، وهنا سنكتشف بعد نظرة تأمل طويلة بأن القوانين الكونية التي تسيطر على عمل الكون هي نفسها ثابتة لا تتغير مذ خلقها الله، ولكن الإنسان هو الذي يتحرك ليكتشف كل يوم جزءاً منها، فمرة يفسر الجاذبية على كونها قوة بين كتلتين ويضع قوانين لذلك، ثم يغيرها بفهم جديد وقوانين جديدة تعتمد النسبية والفضاء والزمن، ويطبقها على مفاهيم جديد.. وبنفس الإطار مرت قصة الذرة وطريقة اكتشافها من نظرية (رذرفورد) إلى نظرية (الكواركات) بالعديد من التغيرات التي جاءت بعد معارك فكرية وعلمية عنيفة بين أجيال علماء الذرة.. إذن، القوانين الكونية ثابتة والإنسان هو من يتحرك على سكة الاكتشاف، مستخرجاً مفاهيم جديد أدت بالتالي لحصول كل هذا التقدم التقني.
وهكذا يمكن أن نقول بأن دينَ الله واحد وثابت لا يتغير، ولكن الإنسان وبحسب تطوره العقلي كان يتحرك على سكة الاكتشاف الديني، بدءاً من آدم ونوح إلى الأشكال الثلاث للأديان الإبراهيمية، وبعد الرسالة الخاتمة للنبي الأكرم (ص)، فأن عملية الاكتشاف للدين لم تتوقف أبداً، بل هي في تطور مستمر متوافق مع واقع الطبيعة البشرية وحتمية تطورها العقلي.
وكما تطمح العقلية العلمية في تحقيق حلم علماء الكون الأوحد في اكتشاف القانون الأصلي للكون، القانون البسيط الذي يوحّد كل قوانين العالم الكمي والنسبي في قانون واحد شامل، فأن للعقلية الدينية طموحها أيضاً، وبحسب الفهم العام فأن هذين الاكتشافين يجب أن يسيرا بصورة متوازية، فمع تطور نظرية الأوتار وتذبذب جدائل الطاقة، وتشغيل أكبر وأضخم معجل جسيمات في العالم، يتحرك العقل الديني للاستعداد لاستقبال معالم ظهور المصلح العالمي الذي سيكشف عن الدين الحقيقي بكافة تفاصيله بما سيسمى عندها بالدين الجديد.. هذا الاقتراب يحتم على المؤسسات الدينية بالإسراع في عمليات التحديث وفهم الواقع بشكل عملي، ووضع المناهج الجديدة بشكل متوافق مع التطور الفكري وانبثاق الأسئلة الجديدة.
|