قلنا في المقال السابق أن الجانب الآخر من الخطأ الإيحاء للمريض بخطورة مرضه، إذ يضع الطبيب نفسه في هذه الحال في موقف حرج حيال مريضه، وهو بالتالي اعتراف ضمني منه بالعجز والقصور..! فإذا كان الطبيب نفسه يتهيّب الموت، ويبذل أقصى طاقاته في إبعاد هذا الشبح عن نفسه، فأولى به أن يجنّب مريضه ما وسعه ذلك سبيلا، إنطلاقاً من واجبه الإنساني، فلا بدّ من الالتزام بمبدأ (ينبغي قول الحقيقة إن اقتضت الضرورة)، ولكن الصعوبة تكمن في الوصول إلى الصيغة المُثلى: متى وكيف يمكن التصريح بالحقيقة دون إحداث بلبلة وانعكاسات سيّئة على المريض؟
هنا تتجلى عظمة الطب ومصاعبه، ومهما يكن من أمر فتعامل الطبيب مع مريضه يتحدد بعمله وخبرته وإنسانيته.. ولكن قد لا يرضخ المريض للواقع، وفي هذه الحال ينبغي على الطبيب ملازمة المريض حتى النهاية.
في الواقع أن الحقيقة تكون معروفة في أغلب الحالات، ولكنها مرفوضة، ولذلك ينشأ نزاع مرير بين الواقع والطموحات الإنسانية؛ فبعض المرضى يصرّون على معرفة الحقيقة دون غموض، ولكن هل هذا الطلب صادر من أعماق رغباتهم؟ وبعضهم الآخر على علم كامل بالحقيقة، ولكنهم ينكرون سماعها، فهل بعد هذا يمكن خداع المرضى؟
ولعل جوانب العالم النمساوي الشهير (فرويد) خير تعبير يصدق في هذا الموضوع الحساس، فبعد أن شخّص طبيبه بأن لديه إصابة بسرطان في اللسان، صارحه بهذه الحقيقة، فما كان من فرويد إلا أن قال له: بأيِّ حقٍّ يا سيدي تقول لي هكذا؟!
ومما يثير الاستغراب أن بعض المرضى يتخلون فجأة عن التحدث حول حالتهم الصحية، ويتعامون مع واقعهم الذي لم يعد يخفى على أحد، وهذا دليل واضح على أنهم لا يبتغون مزيداً من الحقيقة التي عرفوها واستوعبوها.
ويحدث أحياناً أن لا يدرك الطبيب نفسية المريض وانفعالاته، إذ ليس بالإمكان أن يكون معصوماً من الخطأ، خاصة فيما يتعلق بالجوانب النفسية والمشاعر لدى المريض، ولكن يجدر به اختيار الكلمات والعبارات الهيّنة التي لا تخدش مشاعر المريض، ولا تثير عنده الشك والقلق، وأن تكون ذات مضامين باعثة على الأمل والاطمئنان، فكلمة سرطان على سبيل المثال مخيفة قاسية يجب تجنبها قدر الإمكان.
ومع ذلك يمكن الإفضاء بالحقيقة دون متاعب أو قسوة، وبدون خداع ولف ودوران، من خلال العناية بالمريض بإيراد اصطلاحات مهذبة ومقبولة، فكثير من أنواع السرطانات أمكن إبراء المبتلين بها. ومن الأفضل أن يعود المريض إلى أهله بعد مراجعته للطبيب، وهو على علم بأنه مصاب بورم في أحد أجزاء جسمه، وما عليه سوى قبوله بإجراء عملية جراحية بدلاً من إثارة الفزع عنده، وأنه مصاب بمرض خبيث، هكذا يجب أن يُحاط المريض بالحقيقة، لا كيفما اتفق وإنما بأسلوب مقبول.
|