المقدمة:
نقصد بمصطلح (اليهود المسيحيّين) اليهود الذين آمنوا بالمسيح (عليه السلام) حال حياته وبعد رحيله، وذرياتهم، آمنوا به كنبي يدعو للتوبة لغفران الخطايا ومحافظاً على العمل بشريعة التوراة ومجدِّداً لبعض احكامها، وفي مقدمتهم الحواريون أي تلاميذه الاثني عشر، ثم التلاميذ والرسل السبعون، والذين تحولوا بعد رفعه الى السماء الى جماعة مؤمنة مركزها الرئيسي في أنطاكية ومركزها المهم الآخر في أورشليم، ويطلق عليها التقليد المسيحي الحالي اسم (كنيسة انطاكية) و(كنيسة اورشليم)، وفي مقدمتهم بطرس ويعقوب بن حلفى ويعقوب بن كلاوبا ويوحنا. والى جانب "اليهود المسيحيين" كان هناك قلة من المعتنقين للمسيحية اليهودية من غير اليهود، وهؤلاء قبل ظهور بولس لم يكن لهم تميّز او تكتل أو شان يُذكر بصورة واضحة في التاريخ، حيث لم يكن عددهم يتجاوز اصابع اليد أو اكثر بقليل.
فقد بدأ المسيح (عليه السلام) دعوته في بني اسرائيل الذين اصبح يطلق عليهم بعد السبي البابلي اسم (اليهود). واليهود الساكنين في فلسطين اطلقوا على دينهم اسم (اليهودية) حفاظاً على عاداتهم وتقاليدهم وتمييزاً لأنفسهم عن اليهود الذين انتشروا في العالم الهيليني في حوض البحر المتوسط الذين اتخذوا من اليونانية مادة لثقافتهم وبسببهم تُرجِمَتْ التوراة الترجمة السبعينية الى اللغة اليونانية لصالح منفعتهم.
يقول ديفيد سيلفا: (يشير James D. G. Dunn بمهارة الى ان "اليهودية" كانت عبارة تمت صياغتها كما يبدو من قبل يهود مناهضين للهلينية ... المرّة الاولى التي ترد فيها الكلمة هي في مكابيين الثاني 13:4، حيث تمثل الكلمة طريقة العيش اليهودية، وبالتحديد كشيء مفروز جانباً ومميّزاً عن طريقة عيش اليونان {التي كانت مدسوسة ومفروضة على اورشليم واليهودية من قبل نخبتها اليهودية الهلينية})[1].
في ذلك المجتمع اليهودي بدأ المسيح دعوته وهو المستهدف منها. وتنقل اناجيل العهد الجديد المسيحية اشارات للمسيح انه مرسل الى بني اسرائيل خاصة. ففي انجيل متى (15: 21-28): (ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيداء. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: «ارحمني، يا سيد، يا ابن داود! ابنتي مجنونة جدا». فلم يجبها بكلمة. فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: «اصرفها، لأنها تصيح وراءنا!» فأجاب وقال: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة». فأتت وسجدت له قائلة: «يا سيد، أعني!» فأجاب وقال: «ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب». فقالت: «نعم، يا سيد! والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها!». حينئذ أجاب يسوع وقال لها: «يا امرأة، عظيم إيمانك! ليكن لك كما تريدين». فشفيت ابنتها من تلك الساعة).
ويسرد سفر اعمال الرسل الذي كتبه لوقا بحسب التقليد المسيحي، انعقاد اول مجمع مسيحي وكان في اورشليم، حوالي سنة (49-50)م، وتناولت مقررات هذا المجمع التكاليف التي يتوجب على المسيحيين من اصول غير يهودية العمل بها، وهذا يعني حتمية ان يبقى المسيحيون من اصول يهودية متمسكين بالعمل بأحكام التوراة، وانجيل متى ينقل كلام المسيح انه لم يأت لينقض التوراة بل ليكملها.
في انجيل متى (5: 17-19): (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم، فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات).
غير ان المفارقة ان اسفار العهد الجديد لا تنقل ان تلاميذ المسيح وبولس وهم من اصول يهودية استمروا على العمل بالتوراة والشريعة اليهودية الى جانب ايمانهم المسيحي! بل نجد بولس يقول بخلاف ذلك: (كل شيء يحل لي لكن ليس كل شيء صالح)! وهو قول يُبنى عليه امران خطيران:
الاول: ترك الزام العمل بشريعة التوراة بالنسية للمسيحيين من اصول يهودية.
الثاني: ان الشريعة لم تأت للأنسان بما يصلح لحياته، بل يمكن ان تحتوي على امور غير صالحة. فعبارته (كل الاشياء تحل لي)[2] هي بمثابة قانون تشريعي جديد يحل محل قانون التوراة، وهذا القانون يمكن ان يكون فيه اشياء غير صالحة! وهذا تأسيس خطير، فبعدما كانت الشريعة هي لسعادة البشر لانها تجلب لهم الخير وكل ما يصلح لحياتهم، اصبحت الشريعة خليط من امور صالحة وطالحة!
المهم في كل ذلك انه كان يفترض باتباع المسيح، بحسب مقررات مجمع اورشليم، ان يقسموا الى فئتين الاولى: المسيحيّون اليهود، وهم المؤمنون بالمسيح الذين يلتزمون العمل بالتوراة بالاضافة الى تعاليم المسيح. وفي مقدمتهم تلاميذ المسيح. والثاني: المسيحيّون الامميون، وهم المؤمنون بالمسيح وتعاليمهم ولا يلتزمون العمل باحكام التوراة. وهذا يعني ان مجمع اورشليم أسس لتقسيم المسيحيين الى فئتين الاولى من اصول يهودية والثانية من اصول وثنية، فيما يفترض بأي دين او عقيدة ان يرسخ مفهوم وحدة الامة! وهذا ما لم يلتفت اليه الذين نسبوا لمجمع اورشليم تلك القرارات التي نشك بصدورها عن مثل بطرس ويعقوب ويوحنا وبقية الاثني عشر المختارين من قبل المسيح (عليه السلام). ولذلك نجد ان بولس تجاوز مقررات مجمع اورشليم وكان يدعوا جمع المؤمنين بالمسيح سواء من اليهود او من الوثنيين الى اهمال العمل بالشريعة والتاكيد على وحدة الكنيسة! وكأنما المسيح حينما قال لبطرس، كما في إنجيل متى (18:16) {الكاثوليكية}: (انت صخر وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي، فلن تقوى عليها أبواب الجحيم)، كان مخطئاً ولذلك اعتمد بعد ذلك على بولس بدلاً من بطرس!!
ومن الملفت أنَّ دراسة اسفار العهد الجديد تبيّن غياب الفئة الاولى (المسيحيّون اليهود) وعدم وجود ملامح واضحة لهم رغم ان منهم أكثر كتبة اسفار العهد الجديد (عدا سفرين كتبهما لوقا الأممي) ورغم الاعتراف بوجودهم من قبل المؤرخين والعديد من علماء المسيحية!
فكيف تحولّت المسيحية ذات الجناحين اليهودي والأممي، الى مسيحية بجناح واحد هو الجناح الأممي، ونبذت الجناح اليهودي الذي بقيت من آثاره أسفار العهد القديم التي ضمَّنوها في الكتاب المقدس، وفيها اسفار الشريعة المهملة!!
وربما من اسباب ذلك ان اكثر المسيحيين اليهود لم يتبعوا بولس بل كانوا من اتباع تلاميذ المسيح. فقد حدثت خلافات وانقسام بين تلاميذ المسيح وبولس، وهناك اشارات لهذه الخلافات في العهد الجديد. وبولس نفسه يقول انه لم يكن من اتباعه من المسيحيين اليهود سوى ثلاث أشخاص!! فنجد بولس يقول في حوالي سنة 63م إن ارسترخس ومرقس ويسطس هم "وحدهم من اليهود الذين عملوا معي في سبيل ملكوت الله فكانوا عونا لي"[3] ولم يُنقَل إنَّ أياً من هؤلاءِ الثلاثة قد رأى المسيح!!!
وتحدث ديفيد سلفيا عن المسيحية بإعتبارها وريثة اليهودية، فقال وهو يتحدث عن سِفر أعمال الرسل: (يوفر لوقا الكثير من المعلومات حول كيف ينظر الذين هم من خارج – وتحديداً السلطات الرومانية[4] – الى الحركة المسيحية. يؤكّد لوقا عبر سرده الروائي أن الحركة المسيحية هي تطوّر شرعي داخل اليهودية، وحقاً هي الاستمرارية الشرعية لليهوديّة)[5].
وربما هذا هو سبب الخلاف حول اهمية الاعمال الى جنب الايمان، والتي دفعت يعقوب الى كتابة رسالته المتضمّنَة في العهد الجديد. فهو كان يدعوا ليس فقط للعمل الصالح الى جانب الايمان بل العمل باحكام التوراة الى جانب الايمان المسيحي.
وموقف بولس من قضية الختان يكشف كيف انه قلل من شأن الشريعة التوراة عبر انتقاده للختان، رغم انه نفسه قد امر طيموثاوس بالختان!!
وبغياب حلقة (المسيحيّين اليهود) فقدت الانسانية جانباً مهماً كان يمكنه ان يصحح رسالة المسيح ويبين خطأ انحراف بولس بالمسيحية بعيداً عن جذورها اليهودية وعقيدتها التوحيدية!
لقد كانت فجائيّة إعلان شاول الطرسوسي اليهودي الفريسي المذهب، إعتناقه الإيمان بالمسيح بطريقة ادت بعد ذلك الى تأسيس دين جديد يُطلق عليه أسم "المسيحية"، مثيرة للاستغراب والاندهاش وترسم علامات تساؤل عديدة، ورافق ذلك الإعلان بدؤه بصورة مباشرة بالتبشير بعقيدته الجديدة دون ان يتواصل مع تلاميذ المسيح ليسمع منهم بإعتبارهم ورثة تراث المسيح ودعوته وخير من فهموا بشارة المسيح ومطالبها، فبدأ شاول الطرسوسي (بولس) يكرز في بلاد العرب[6] وبعد فشله هناك اتجه الى الانغماس بين تلاميذ المسيح الموصوفين بأكابر الرسل، ويشاركهم في ارساليتهم التبشيرية التي راموا منها تبشير اليهود اليونانيين في مدن حوض البحر المتوسط بقيادة برنابا، ليستمد من علاقته بهم شرعية اعتبارية، نجح فيما بعد بإستثمارها لصالح دعوته الجديدة! وشيئاً فشيئاً اعتنق وثنيون (أمميون) من غير اليهود في تلك المدن المسيحية، وبدأت تظهر بين المسيحيين من اصول وثنية مشكلة ضرورة العمل بشريعة التوراة! ولا سيما قضية الختان! وبدأ "اليهود المسيحيون" يسمعون أن بولس يعلِّم بترك العمل بشريعة التوراة لأنَّ هناك عهداً جديداً بدء بالمسيح، وهذا ما اثار سخط زعماء "اليهود المسيحيون" واتباعهم، بل وسخط بقية اليهود بإعتبار أنهم لم يكونوا يرون مَنْ يؤمن بالمسيح منفصلاً عنهم بل هو مجرّد ايمان جديد وتعاليم اخلاقية جديدة وممارسات عبادية في ضوء تعاليم التوراة الاصلية حتى لو صاحَبَها تغيير لبعض مما ورثوه من تقاليد وتعاليم توراتية، فكما كان هناك يهود فريسيون ويهود صدوقيّون فهناك مذهب ثالث وهو اليهود المسيحيون، هكذا كان اليهود ينظرون للموضوع قبل اعلان بولس لتعاليمه ومناداته بالمسيح المصلوب والفداء وقيامته من الموت ونبذ العمل بشريعة التوراة نهائياً. ومما يؤيد هذا التقسيم ما ذكره يوسيفوس المؤرّخ اليهودي الشهير حول مقتل يعقوب بن كلاوبا (من السبعين تلميذاً وكان يُدعى اخا يسوع المسيح) حيث كان يوسيفوس يرى "ان خراب اورشليم على عهد تيطس قيصر ما كان الا انتقاماً إلهياً من الشعب اليهودي لأنهم قتلوا القديس يعقوب اخا يسوع المسيح، ودعا هذا الرسول رجلاً بارّاً"[7]، وما ذاك الا لكون يعقوب بن كلاوبا وإنْ كان مسيحياً من التلاميذ السبعين، الا انه قبل كل شيء كان يهودياً تقياً ملتزماً بشريعة التوراة وتعاليم المسيح. وقال بطرس بن قرماج: (وكان عدد المسيحيين يزيد كل يوم في اورشليم بغيرة القديس يعقوب وبرّه ووداعتهِ، على انه كان يداوي اليهود ويأخذهم بحكمتهِ ولا يمنعهم عن استعمال الطرائق اليهودية التي لا تضاد النصرانية)[8]، فهذا هو اسلوب حياته وفقاً لمعتقده، حيث كان يهودياً مسيحياً ملتزماً بالعمل بالتوراة وتعاليم المسيح.
ولذلك فقد وقف جميع اليهود، فريسيين وصدوقيين ومسيحيين، ضد دعوة بولس الجديدة، وهو ما تبيّنه نصوص سفر اعمال الرسل المنسوب الى لوقا احد تلاميذ بولس. ولكن ما حدث انه بعد مجمع نيقية 335م انتصر دين بولس الصليبي واصبح ديناً رسمياً للدولة الرومانية، مما ادى الى ضعف واضمحلال جماعة اليهود المسيحيين، حتى اختفوا تدريجياً ولم يعد لهم وجود يُذكر.
وتكشف نصوص أسفار العهد الجديد عن صراع واسع بين بولس ودعوته المسيحية الصليبية (لقول بولس: ننادي بمسيح مصلوب) والتي بدأت بعد رفع المسيح وإعتناق بولس لإيمانه الخاص بالمسيح، وبين اليهود المسيحيين اتباع المسيح والامتداد الطبيعي لتلاميذه واتباعه الذين آمنوا به حال حياته وسمعوه وعرفوا دعوته ورأوا معجزاته وآمنوا بها.
وكتب ديفيد سيلفا حول العلاقة بين بولس واليهود المسيحيين: (إحدى أكثر مجموعات الأسئلة إلحاحاً، التي كان على الكنيسة الاولى أن تتعامل معها، كانت ترتبط بمتطلبات الانضمام الى شعب الله واستمرارية صلاحية التوراة (الناموس اليهودي) كالنظام المسلكي الذي ينبغي أن ينظّم حياة الكنيسة. أصوات أولئك الذين جادلوا قائلين إن الختان، الذي شكّل طقس الانضمام الى شعب العهد منذ ابراهيم ، بقي علامة جوهرية لأولئك الذين كانوا ينتمون الى عهد الله الجديد. مهما كانت تلك الاصوات قوية، لكنها دُفِعَتْ الى الهامش من قبل بولس وتأثيره المتنامي في الكنيسة، وتقدّم الرسالة الى الغلاطيين ربما أقوى تصريح ضد أصوات كهذه)[9].
وكتب قائلاً: (موقف بولس الجديد من التوراة جعل منه شخصاً غير مرغوب فيه بين اليهود غير المسيحيين، وبالحقيقة بين الكثيرين من المسيحيين اليهود في اليهودية. تعكس الكلمات المنسوبة الى يعقوب في اعمال 21: 20-21 المشاعر المناهضة لبولس في اورشليم: "وقد اُخبِروا عنك أنّك تعلّم جميع اليهود الذين بين الامم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد". بكلمات أخرى، نُظِرَ الى بولس كيهودي مرتد يروّج للهلينيّة، خرج ليدمّر طريقة العيش والهوية المميَّزة للشعب اليهودي. وهو مصبوغ بالصبغة نفسها التي اصطبغ بها الهلينيّون الذين جلبوا الكثير من الحزن على إسرائيل، قبل الثورة المكابية، ولقد تكاملت صورته هذه عندما أشار اليهود الى أنه دنّس الهيكل بإدخال صديق أممي الى باحة الاسرائيليين. لا يبدو بولس نفسهُ بأنّهُ نصح يهود الشتات بالتخلّي عن عوائد آبائهم – طالما ان ممارستها لم تشكل خيانة لطبيعة الجسد الجديد الواحد لليهود والامم المتحدين في المسيح (مثلاً، برفض الجلوس الى مائدة لتناول الطعام مع المسيحيين الأمم). تصريحاته القوية عن افتقار الختان للقيمة الحقيقية في نظر الله، وإصراره على إمكانية أن يأكل المسيحيون اليهود والأمم معاً، وان يلتقوا معاً في منازل بعضهم البعض، وما شابه ذلك، شكّل أساساً كافياً لمقاومته في أورشليم)[10].
وتحدث ديفيد سيلفا عن حركة بولس و"التشديد على استقلالية إنجيله عن رسل أورشليم واعتماده الكلي على الله في رسالته ومأموريته"[11]. والقاريء النبيه سوف يجد أنَّ هناك ازمةً في هذه العبارة! فإذا كان بولس يعتمد في إنجيله (بشارته) على الله فعلى مَنْ كان يعتمد بطرس الذي قال عنه المسيح انه سيبني عليه كنيسته[12]! وبقية تلاميذ المسيح واتباعه الـ 500 الذين عاصروه ورأوا معجزاته وآمنوا به حال حياته ورأوا ارتفاعه الى السماء[13]؟! أليسوا هم أيضاً اخذوا دينهم وشريعتهم وتمسكهم بشريعة التوراة وإلزام الختان من المسيح وتعاليمه التي سمعوها منه مباشرة والتي تعني انّها إلهية المصدر!
ويشير جون ادوارد الى وجود جماعة يُلقَّبون بجماعة الموحِّدين (الموناركية أو الملوك) (Monarchians – Unitarians)، "وهي جماعَة رفضت الوحدانيَّة الجامعة بحجة أنها عقيدة تم تكوينها في مجمع نيقيَّة وأقرَّت عبادة الآب بدون الآبن و الروح القُدُس"[14]. فمن هي تلك الجماعة سوى الامتداد الطبيعي لليهود المسيحيين الموحدين الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ويؤمنون بنبوة عبده المسيح.
وأخيراً، سنتناول ملامح تاريخ "اليهود المسيحيين" في بحثنا هذا عبر المواضيع التالية:
· ملخص لتاريخ اليهود في فلسطين الى عصر ظهور المسيح
· مؤتمر اورشليم
· أمم وقبائل اعتنقت اليهودية قبل الاسلام
· كنيسة أنطاكية مركز اليهود المسيحيين
· اعمال رسل "اليهود المسيحيين"
· الخلاف بين بولس وكنيستي انطاكية وأورشليم
· نقمة اليهود و"اليهود المسيحيين" على بولس
· برنابا يكشف حقيقة بولس
· ابرز ملامح عقيدة "اليهود المسيحيين"
· نيرون و"المسيحيون اليهود"
· اشكالات الاسفار المسيحية الحاملة لأسماء تلاميذ المسيح
· ملحق تأريخي: لمحة من تاريخ اليهود في مدن حوض البحر المتوسط
ملخص لتاريخ اليهود في فلسطين الى عصر ظهور المسيح
يوجد في تاريخ اليهود نزعتان رئيسيتان ومهمتان الاولى صراعهم مع القوى الخارجية للتخلص من الاحتلالات التي كانت تتوالى عليهم. والثانية صراعهم مع القوى الداخلية المتأثرة بالحضارة الهلنية (اليونانية) وسعيهم للحفاظ على قيمهم العبرانيّة. وضمن هاتين النزعتين نتعرف على التالي:
· خضعت فلسطين، وفيها بلاد اليهودية، لسلطة الاسكندر الاكبر، وكان نصيبها بعد وفاته من حصة بطليموس وخلفاءه للفترة (318 - 198)ق.م.
· انتشرت في فلسطين مستوطنات ومدن يونانية.
· ظهور التأثير اليوناني بالثقافة والمجتمع والحياة اليومية اليهودية.
· كرد فعل على التغريب الثقافي اليوناني ظهرت حوالي سينة 300ق.م جماعة (المتقين) اليهودية حاولت ان تظهر نموذجاً للالتزام الديني في المجتمع اليهودي وتحافظ على القيم اليهودية في الحياة اليومية.
· انتقلت السيطرة على بلاد اليهودية سنة 198ق.م. الى السلوقيين.
· في ظل السلوقيين بدأ سياسة فرض الثقافة الهلنية على بلاد اليهود، وإقامة النظم اليونانية في تلك البلاد.
· بدأت تنتشر بعض المظاهر الوثنية واللامبالاة الدينية على نحو أوسع في بلاد اليهودية.
· بسبب الصراع بين البطالمة بقيادة بوبليوس وبين السلوقيين بقيادة أنتيوخوس الرابع، قام الاخير بالانتقام من اليهود لمساعدتهم البطالمة في الحرب ضده وكان من أهم مظاهرانتقامه:
ـ ذبح آلافاً من اليهود رجالهم ونسائهم.
ـ تدنيس الهيكل ومصادرة مذبحه الذهبي وكنوزه وجعله ضريحاً مقدساً لزيوس إله اليونان.
ـ استبدل القرابين القديمة بقربان من الخنازير.
ـ حرم تقديس السبت والاحتفال بالأعياد اليهودية.
ـ جعل الختان جريمة يُعاقب عليها بالإعدام.
ـ حرق التوراة والكتب المقدسة اليهودية.
ـ احراق اورشليم وهدم اسوارها.
ـ كل من يأبى من اليهود أن يأكل لحم الخنزير وكل من يوجد عنده كتاب الشريعة، يُسجن أو يُقتل.
ـ حُرمت جميع مراسم الدين اليهودي في جميع أنحاء بلاد اليهود، وألزم الأهلون باتباع المراسم اليونانية.
ـ بيع العديد من سكانها اليهود في أسواق الرقيق، وجيء بالأجانب ليُقيموا فيها.
وقد عوقب من يخالف هذه الأوامر بالإعدام.
· اخذت جماعة (المتقون) اليهودية يدعون السكان اليهود لمقاومة هذه المظاهر الوثنية في بلادهم.
· ظهور متاثياس Mattathias اليهودي من أسرة هزموناي Hasmonai من سبط هارون، وأبناؤه الخمسة وابرزهم بوداس المعروف باسم مكابي، وسيطرتهم على اورشليم وقاتل هو واخوته الاربعة فقتلوا الى ان وصل الامر الى رابعهم واسمه سيمون الذي تمكّن سنة 142ق.م. من ان ينال اعترافاً باستقلال بلاد اليهود فأقام دولة يهودية نزعوا منها جميع المظاهر الوثنية واليونانية. عرفت بأسم المكابيين. وصارت بلاد اليهود مرة أخرى دولة دينية تحكمها هذه الأسرة أسرة الكهنة- الملوك.
· نتيجة صراعات داخلية على السلطة استعان احد المكابيين بالقائد الروماني بمبي الذي استولى على اورشليم سنة 63ق.م. وأصبحت بلاد فلسطين جزءاً من ولاية سورية التي يحكمها الرومان.
· في سنة 43ق.م. حاول اليهود استعادة استقلالهم لكن هذا الامر عرّضهم للذبح والسبي بالبيع في اسواق الرقيق من قبل القوات الرومانية.
· نتيجة الصراع بين البارثيين والرومان، تمكن هيرود الذي عينه الرومان ملكاً على فلسطين من طرد البارثيين، واستقرت له السلطة فيها سنة 37ق.م الى وفاته سنة 4ق.م.
· عاد الملك هيرود الى مساعي نشر الثقافة والفكر اليوناني ومظاهر الحياة الوثنية في المجتمع اليهودي.
· قام الملك هيرود بهدم الهيكل اليهودي واقام محله هيكلاً جديداً اكبر مساحة! رغم اعتراض اليهود على ذلك.
· في عهد الملك هيرود وُلِدَ المسيح (عليه السلام).
· بعد موت الملك هيرود اعلن بعض اليهود الثورة على خليفته أركلوس وادى ذلك الى مقتل اعداد كبيرة منهم بلغوا حوالي 3000 شخص، وهدم المدن مع التخريب والنهب والسبي بالبيع في سوق الرقيق.
· تحولت البلاد من النظام الملكي بأسم الرومان الى تابعة لولاية سورية الروماية.
· دخلت البلاد في هدوء نسبي الى عهد الامبراطور الروماني كاليجولا أو كاليغولا (12-41)م، والذي تولى العرش بعد طيباريوس، والذي اراد أن يجعل عبادة الإمبراطور ديناً يوحد به أجزاء الإمبراطوريّة المختلفة فأمر أن تشمل كل العبادات قرباناً يقرب لصورته وأصدر تعليماته إلى الموظفين في أورشليم أن يضعوا تمثاله في الهيكل، فاحتج اليهود بشدة.
· تولى اغريبا حكم جزء من فلسطين كملك محلي بأسم السلطة اليونانية (41-44)م.
· بعد موت اغريبا عادت الاضطرابات الى فلسطين بسبب سياسة حكامها بفرض الثقافة اليونانية الوثنية عليها.
· انطلقت الثورة اليهودية (68-73)م والتي ادت الى تهديم الهيكل نهائياً سنة 70م وما رافقها من قتل وتشريد وسبي بالبيع في اسواق الرقيق[15].
مؤتمر أورشليم
عُقِدَ اول مجمع مسيحي من قبل تلاميذ المسيح في اورشليم بحسب رواية كاتب سِفر اعمال الرسل، وكان ذلك حوالي سنة 49-50م. وجاء في رواية اعمال الرسل للاحداث (15: 1-33) {فاندايك}:
(1 وانحدر قوم من اليهودية، وجعلوا يعلمون الإخوة أنه «إن لم تختتنوا حسب عادة موسى، لا يمكنكم أن تخلصوا».
2 فلما حصل لبولس وبرنابا منازعة ومباحثة ليست بقليلة معهم، رتبوا أن يصعد بولس وبرنابا وأناس آخرون منهم إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم من أجل هذه المسألة.
3 فهؤلاء بعد ما شيعتهم الكنيسة اجتازوا في فينيقية والسامرة يخبرونهم برجوع الأمم، وكانوا يسببون سرورا عظيما لجميع الإخوة.
4 ولما حضروا إلى أورشليم قبلتهم الكنيسة والرسل والمشايخ، فأخبروهم بكل ما صنع الله معهم.
5 ولكن قام أناس من الذين كانوا قد آمنوا من مذهب الفريسيين، وقالوا: «إنه ينبغي أن يختنوا، ويوصوا بأن يحفظوا ناموس موسى».
6 فاجتمع الرسل والمشايخ لينظروا في هذا الأمر.
7 فبعد ما حصلت مباحثة كثيرة قام بطرس وقال لهم: «أيها الرجال الإخوة، أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار الله بيننا أنه بفمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون.
8 والله العارف القلوب، شهد لهم معطيا لهم الروح القدس كما لنا أيضا.
9 ولم يميز بيننا وبينهم بشيء، إذ طهر بالإيمان قلوبهم.
10 فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله؟
11 لكن بنعمة الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص كما أولئك أيضا».
12 فسكت الجمهور كله. وكانوا يسمعون برنابا وبولس يحدثان بجميع ما صنع الله من الآيات والعجائب في الأمم بواسطتهم.
13 وبعدما سكتا أجاب يعقوب قائلا: «أيها الرجال الإخوة، اسمعوني.
14 سمعان قد أخبر كيف افتقد الله أولا الأمم ليأخذ منهم شعبا على اسمه.
15 وهذا توافقه أقوال الأنبياء، كما هو مكتوب:
16 سأرجع بعد هذا وأبني أيضا خيمة داود الساقطة، وأبني أيضا ردمها وأقيمها ثانية،
17 لكي يطلب الباقون من الناس الرب، وجميع الأمم الذين دعي اسمي عليهم، يقول الرب الصانع هذا كله.
18 معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله.
19 لذلك أنا أرى أن لا يثقل على الراجعين إلى الله من الأمم،
20 بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام، والزنا، والمخنوق، والدم.
21 لأن موسى منذ أجيال قديمة، له في كل مدينة من يكرز به، إذ يقرأ في المجامع كل سبت».
22 حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة أن يختاروا رجلين منهم، فيرسلوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا: يهوذا الملقب برسابا، وسيلا، رجلين متقدمين في الإخوة.
23 وكتبوا بأيديهم هكذا: «الرسل والمشايخ والإخوة يهدون سلاما إلى الإخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسورية وكيليكية:
24 إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلبين أنفسكم، وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم.
25 رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس،
26 رجلين قد بذلا نفسيهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح.
27 فقد أرسلنا يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها.
28 لأنه قد رأى الروح القدس ونحن، أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة:
29 أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. كونوا معافين».
30 فهؤلاء لما أطلقوا جاءوا إلى أنطاكية، وجمعوا الجمهور ودفعوا الرسالة.
31 فلما قرأوها فرحوا لسبب التعزية.
32 ويهوذا وسيلا، إذ كانا هما أيضا نبيين، وعظا الإخوة بكلام كثير وشدداهم.
33 ثم بعد ما صرفا زمانا أطلقا بسلام من الإخوة إلى الرسل).
والاثارات المستفادة من هذا النص التالي:
1- هذا النص برواية كاتب اعمال الرسل، ولا يوجد دليل على انه ينقل بامانة ما حدث في ذلك المجمعودون تحيّز الى افكار بولس، حيث ان العهد الجديد نفسه يشهد بأن يعقوب، وهو من اليهود المسيحيين، كان حريصاً على دعوة اليهود المؤمنين بالمسيح الى العمل بالشريعة، بينما لم يرد في اعمال الرسل ولا في اي سفر آخر سواء رسائل بولس او الرسائل المنسوبة الى بطرس ويوحنا ويهوذا، أي اشارة الى ضرورة ان يستمر اليهود المؤمنين بالمسيح الى العمل بالشريعة!
2- الجملة (7) تنسب الى بطرس مهمة تبشير الوثنيين! وهذا خلاف ما مذكور سابقاً من هذه هي مهمة بولس وإنما كانت مهمة بطرس هو تبشير اليهود! وهذاالتناقض والاختلاف هم مما يضعف القيمة التأريخية والدينية لهذا النص!
3- الجملة (10) تنسب الى بطرس قوله: (فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله؟)! فالموضوع يخص التلاميذ الذين هم بالاصل من اليهود، وليس فقط المهتدون من الامم! ولذلك نجد ان بولس كان يعلِّم حتى اليهود بترك العمل بشريعة التوراة، وهو نفسه ترك العمل بها!
4- الجملة (20) ينسب الى يعقوب قوله: (بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام، والزنا، والمخنوق، والدم)!هل يعقل ان يعقب البار الذي يقول عنه يوسيفيوس انه بسبب مقتله سلط الله الرومان وهدموا الهيكل! هل يعقل انه يقوم بتشريع شريعة جديدة من عند نفسه!! هذا كلام لا يقبله متديّن! فلماذا اختيار هذه الامور الاربعة! فلماذا ذكر الزنى وحده ولم يذكر السرقة والقتل وخيانة الامانة والبخس في الميزان ونقض العهد، بل وما جاء في التوراة من ضرورة الالتزام بضريبة المعبد {انظر: متى 17: 24-27}، ودفع ضريبة العشور السنوية {تثنية ١٤:٢٢}، وغيرها من الاحكام الواردة في التوراة. هل فعلاص غضَّ يعقوب النظر عن احكام التوراة التي يعرف جيداً انها حكم الله سبحانه وان المسيح قال: ما جئت لأنقض بل لأتمم!
5- بخصوص جملة (29) جاء في هامش الطبعة الكاثوليكية ان المقصود بالزنى هو زنى الاقارب! إذن ليس الزنى بين الغرباء هو الذي كان منهياً عنه بحسب هذا النص!! فلا غرابة ان تشيع الفاحشة في المجتمعات المسيحية الاولى بالصورة التي كان ينتقدها بولس في رسائله لا سيما رسالته الى اهل كورنثوس!!
6- بخصوص جملة (22) ورد اسم يهوذا المدعو (برسابا)! ورفيقه سيلا، وجاء في هامش الكاثوليكية ان سيلا هذا كان رفيق بولس في رحلاته! ولكنها تجنبت الاشارة الى يهوذا ومن هو المقصود بهذا الاسم!وكذلك تجنبت بيان من هو المقصود بيهوذا كل من: الطبعة اليسوعية، والطبعة الرعائية، والتفسير التطبيقي للكتاب المقدس، والكتاب المقدس الدراسي!!
ولا يعرفون شيئا عن يهوذا برسابا هذا! فهو من الاسماء المجهولة في الكتاب المقدس وفي التقليد المسيحي ايضاً، وزعم الأنبا متاؤس أسقف دير السريان في كتابه {كتاب أسماء السبعين رسولًا (الرسل السبعون)} ان يهوذا هذا هو احد الرسل السبعين الذين اختارهم المسيح! ومن الملفت انهم حينما يذكرون سيرة حياة يهوذا هذا لا يشيرون اليه أنَّه كان نبياً وفق هذا النص في العهد الجديد!!
ومن الجدير بالذكر ان هناك شخصاً آخر حمل نفس أسم (برسابا) وهو يوسف المذكور في اعمال الرسل (23:1): (يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس)! ولذلك قال بعض علماء المسيحية ان يهوذا هو نفس يوسف هذا[16]، في تخبّطٍ واضحٍ!!
أمم وقبائل اعتنقت اليهودية قبل الاسلام
كان اليهود قبل ظهور بولس ينتشرون في مدن عديدة خارج فلسطين، وخصوصاً في حوض البحر المتوسط، بل ووصل اليهود الى المانيا قبل الميلاد[17]، وكان في غالة[18] تجار يهود من عهد يوليوس قيصر[19]، وكان العديد من الوثنيين (الأمم) يعتنقون اليهودية، ويلتزمون بشريعة التوراة ويسيرون كسائر اليهود، ولم يكونوا يعانون من مشكلة الالتزام بشريعة التوراة ومن ضمنها الختان. وهذا يكشف عن ان مشكلة الختان التي اثارها بولس ليست مشكلة حقيقية تواجه الوثنيين المعتنقين لليهودية، بل هي مشكلة اثارها بولس تبعاً للعقيدة الجديدة التي اعتنقها أو لنقل أوجدها أو فهمها مما علق بذهنه من مجمل ما واجهه! وسنبين في هذه الفقرة ان الأمم الوثنية كانت تعتنق اليهودية ولم تكن هناك إثارة لمشكلة الختان أو غيرها بسبب تطبيق تعاليم اليهودية.
ووردت في أسفار التناخ عند اليهود {وهي التي يسميها المسيحيون أتباع بولس بالعهد القديم} عدّة مواضع تذكر اعتناق أمم وشعوب وقبائل لليهودية، قبل الإسلام، ومواضع أخرى تنبيء باعتناق أمم وشعوب لليهودية، منها:
1) في سفر استير (17:8): (وكثيرون من شعوب الأرض تهودوا لأن رعب اليهود وقع عليهم).
2) في سفر حزقيال (23:38): (فأتعظم وأتقدس وأعرف في عيون أمم كثيرة، فيعلمون أني أنا الرب).
3) في سفرصفنيا (9:3): (لأني حينئذ أحول الشعوب إلى شفة نقية، ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة).
4) في سفر زكريا (8: 20-23): (هكذا قال رب الجنود: سيأتي شعوب بعد، وسكان مدن كثيرة. وسكان واحدة يسيرون إلى أخرى قائلين: لنذهب ذهابا لنترضى وجه الرب ونطلب رب الجنود. أنا أيضا أذهب. فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم، وليترضوا وجه الرب. «هكذا قال رب الجنود: في تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم بذيل رجل يهودي قائلين: نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم»).
يقول الدكتور شلومو ساند Shlomo Sand[20]: (في كتابات أشعياء الثاني ، سِفر روت، سِفر يونان، أو سِفر يهوديت الخارجي، نصادف مراراً دعوات مباشرة وغير مباشرة تسعى الى اجتذاب الأغيار[21] الى اليهودية بل وإقناع العالم قاطبة بقبول "شريعة موسى". وقد اقترح مؤلفو سِفر أشعياء خاتمة عالمية للعقيدة التوحيدية اليهودية: "ويكون في آخر الايام أن جبل الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجري إليه كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة ويقولون هلم نصعد الى جبل الرب الى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك سبله" {أشعياء، الاصحاح الثاني، 2-3})[22].
ويناقش الدكتور شلومو ساند أعداد اليهود وانتشارهم في جميع انحاء العالم مع اعدادهم في فلسطين قبل الميلاد وبعده ويتوصل الى انه من غير الممكن ان يكون جميع هؤلاء اليهود في العالم هم من اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين (مملكتي اسرائيل ويهوذا) وإنما هؤلاء معتنقون لليهودية وقبائل وجماعات تهودت عبر الزمان[23]، واشار الى "رسالة الدكتوراه التي كتبها أوريئيل راببورت في العام 1965 – والتي لم تُنشر مع الأسف الشديد على الرغم من أن كاتبها أضحى مؤرخاً معروفاً لحقبة الهيكل الثاني – تعد من المؤلفات النادرة التي شذّت عن الخطاب الهستوريوغرافي السائد وحاولت دون جدوى توجيه أنظار الباحثين في إسرائيل الى حركة التهويد الواسعة. فعلى عكس سائر المؤرخين الإثنيين-القوميين، لم يخشَ راببورت الجزم في خلاصة أطروحته اللامعة بأن "تعاظم اليهودية في العالم القديم لا يمكن تفسيره – بسبب حجمه الهائل – بواسطة النمو السكاني الطبيعي، عن طريق الهجرة من أرض الوطن أو من خلال أي تفسير آخر لا يأخذ في الحسبان حركة الالتحاق بها من الخارج"[24].
ويضيف الدكتور شلومو ساند: (وبذلك فقد انضم باببورت الى تقاليد هستوربوغرافية (غير يهودية) متعددة الفروع، ضمت كبار الباحثين في العصر القديم – من آرنست رينان وحتى يوليوس ولهاوزن، ومن إدوارد مايير (Meyer) وحتى إميل شايرر – والتي أكدت، وفقاً للهجة الحادة التي استخدمها تيودور موزمون، على ان "اليهودية في العصر القديم لم تكن بتاتاً منغلقة أو منعزلة، على العكس فقد كان يملؤها الحماس للتهويد بدرجة لا تقل عن المسيحية والإسلام من بعدها")[25]. ثم يتطرق الى وثائق عُثِرَ عليها من المدينة السومرية نيبور وصلت الينا من الحقبة الفارسية وفيها جزء كبير من اسماء الاباء الواردة فيها هي اسماء بابلية اعتيادية فيما جزء من اسماء اولادهما سماء عبرية صرفة، وهذا يدل على توجه لاعطاء اسماء عبرية للجيل الثاني والثالث من المتهودين. وهناك ظاهرة مشابهة اكتشفت في ورق البردي في جزيرة إلفانتين بأسوان بمصر، وهناك أيضاً أسماء الآباء مصرية بينما أسماء الأبناء عبرية في الكثير من الأحيان، وفي هذه الحالة فإنَّ فرضية اعتناق اليهودية تغدو قوية ومُسنَدة أكثر، فلو كانوا من المهاجرين اليهودائيين لما حملوا اسماءاً مصرية. ويتطرق كذلك الى الحشمونائيم (مملكة المكابيين في فلسطين) وانتشار اليهود في مناطق شرق البحر المتوسط، وطرد المبشرين اليهود من روما لأكثر من مرّة، وغيرها من التفاصيل المهمة التي تبيّن التوسع اليهودي في مختلف المدن عبر التبشير، ومن يرغب بالتوسع فليراجع المصدر.
وانتشار اليهودية في شرق اوربا ولا سيما الخزر وهم قبائل من اصول تركية اعتنقوا اليهودية في حوالي القرن الثامن الميلادي، وكذلك انتشارهم في الحبشة واليمن في العصر الجاهلي، كلها امثلة واقعية على اعتناق قبائل وشعوب لليهودية دون ان يكون موضوع تطبيق شريعة التوراة او الختان عائقاً.
وهذا يعني انه ليست هناك مشكلة امام الشعوب الوثنية التي تعتنق اليهودية من حيث التزامها بشريعة التوراة ومنها الختان. فلماذا ظهرت هذه المشكلة في المسيحية المبكِّرة في ارض الواقع لولا ان بولس (اليهودي السابق) لم يكن يؤمن بضرورة استمرار تطبيق الشريعة، وكان يميل لنمط الحياة الهلينية بدليل تفضيله استخدام الاسم الروماني (بولس) بدلاً من اليهودي (شاول)! فكان التحريض من بولس على عدم العمل بشريعة التوراة للمؤمنين بالمسيحية سواء من المعتنقين لها من الامميين (الوثنيين) أو من اليهود! ولعلّ هذا السبب الأبرز في هياج آلاف اليهود المسيحيين وباقي اليهود (الفريسيين والصدوقييين) ضده، والمشار اليه في سفر اعمال الرسل (21: 20 وما بعدها).
كنيسة أنطاكية مركز اليهود المسيحيين
يقول ديفيد سيلفا: (بدأت كنيسة انطاكية كحركة مسيحية يهودية كانت رائدة في الشروع بإرسالية للأمم. في ضوء مواجهات بولس مع بطرس و"القوم من عند يعقوب" كما ورد في غلاطية 3: 1-11، يبدو أن المسيحيين اليهود هناك كانوا مقتنعين أن ياخذوا موقفاً أكثر محافظاً حيال استمرارية سريان مفعول قوانين الطعام في الكنيسة {ولكن ليس الختان}. في الوقت نفسه الذي فيه كانت الكنيسة تصبح أممية أكثر فأكثر، كانت عداوة اليهود غير المسيحيين تتزايد، خاصةً بعد الثورة اليهودية {التي كان المسيحيون اليهود غير مؤيدين لها بشكل جلي})[26]. اما استثناء الختان في هذا النص فمبني على مقررات مجمع اورشليم التي نقلها لنا اتباع بولس في سِفر اعمال الرسل، ولا نعرف هل هي المقررات الحقيقية بحذافيرها إذ لم ترد إلينا من مصدر آخر!
وارتبطت كنيسة اورشليم التي كان يترأسها يعقوب الصغير بكنيسة انطاكية، واصبحت ككنيسة فرعية لها، تعلن مباديء اليهود المسيحيين التي تعلموها من المسيح نفسه.
اعمال رسل "اليهود المسيحيين"
نجد في سفر اعمال الرسل في العهد الجديد ملامح لجماعة اليهود المسيحيين وزعمائهم الذين هم تلاميذ المسيح واكابر الرسل، وبعض الاشارات عن نمو جماعتهم. الى ان التحق بهم بولس فشقّ صفوف اتباعهم من المؤمنين الجُدد، حيث تظاهر اول امره بالايمان بالمسيح معهم، فهو كان يهودياً أيضاً، وطيلة 14 سنة قضاها معهم كان ينشر افكاره سراً دون علمهم، وحتى في الارساليات التبشيرية التي كان يذهب بها بالتعاون مع قادة اليهود المسيحيين لم يكن يظهر عقيدته وافكاره تماماً الى ان ظهرت مشكلة ختان المؤمنين بالمسيح من غير اليهود، والذين اُطلِق عليهم وصف الوثنيين او الامميين. فبدأ بولس يجاهر بعدم العمل بالتوراة ونبذ الشريعة وان له شريعة جديدة تلقاها مباشرة من المسيح!
فسِفر اعمال الرسل يبين مرحلتين في التبشير، الاولى قبل افتراق برنابا عن بولس والثانية بعد افتراقهما!
§ قبل افتراق برنابا عن بولس: كان التبشير يختص بدعوة اليهود الى الايمان بالمسيح، وهو على قسمين:
القسم الاول: من اعمال الرسل (1:1) الى (26:11) وفيه سرد لنشاط جماعة اليهود المسيحيين بدعوة اليهود العبرانيين في فلسطين والذين كانوا يتكلمون الآرامية آنذاك على نحو واسع ورئيسي الى جانب العبرية.
القسم الثاني: من اعمال الرسل (27:11) الى (31:28) وفيه سردٌ لنشاط جماعة اليهود المسيحيين بدعوة اليهود الهلينيين، أي المتكلمين باليونانية في مدن حوض البحر المتوسط.
§ بعد افتراق برنابا عن بولس: منذ افتراق برنابا ومرقس عن بولس حوالي سنة 50م أو 51م. وكما في اعمال الرسل (39:15) لم يعد لوقا وهو الكاتب المفترض لسفر اعمال الرسل يروي شيئا عن اعمال اكابر الرسل تلاميذ المسيح (قادة اليهود المسيحيين) واستمرَّ بكتابة اعمال بولس وحده الى آخر السِفْر. وهي اشارة الى تحيّزه الى بولس وانه من اتباعه.
وليس لدينا معلومات واضحة تفصيلية عن سيرة تلاميذ المسيح أكابر الرسل واقوالهم سوى بعض ما هو غير معلومة صحته مما هو مكتوب عنهم في سِفر اعمال الرسل، وليس من المستبعد ان اتباع بولس وهم يكتبون أسفار العهد الجديد قد نسبوا الى رموز اليهود المسيحيين ما لم يقولوه من عقيدة وافعال! كما هو شأن الخصوم دائماً! ولذلك حينما نقرأ وجود أسفار بأسم (بطرس) و(يعقوب) و(يوحنا)، وكلام في اعمال الرسل يقول فيه بطرس ان المسيح رب، فهذا لا يكشف عن حقيقة أقوالهم وعقيدتهم بل يكشف عما نُسِبَ اليهم من عقيدة وأقوال بدون أن يكون هناك شاهد على صدقها سوى التقليد الكنسي لأتباع بولس!
وهناك اشارات الى وجود ارساليات ورحلات تبشيرية كان قادة اليهود المسيحيين ينظمونها[27] في مختلف المدن التي يسكنها اليهود في حوض البحر المتوسط[28].
وأمّا قول بولس في رسالته إلى اهل غلاطية (7:2): (عُهِدَ اليَّ في تبشير القُلف كما عُهِدَ الى بطرس في تبشير المختونين) فقوله "المختونين" يقصد به اليهود، وكلامه هذا يكشف عن ان بطرس والمسيحيون اليهود كانوا يهتمون بدعوة اليهود، ولا يرسلون ارسالياتهم التبشيرية سوى للمدن التي يتواجد فيها اليهود سواء في فلسطين وبلاد الشام او في حوض البحر المتوسط كله، عملا بسيرة المسيح وتعاليمه.
ويشير بعض علماء المسيحية الى وجود ارساليات من "اليهود المسيحيين" الى المدن التي يسكنها اليهود في حوض البحر المتوسط. كتب ديفيد سيلفا وهو يتحدث عن رحلة بولس وبرنابا: (في الوقت ذاته، وصلت قضية احتواء الأمم في الكنيسة وما إذا كان عليهم أن يختتنوا ويتعلّموا أن يحفظوا الناموس الموسوي، الى نقطتها المحمومة. ربما بعد عودة بولس وبرنابا الى أنطاكية بوقت قصير، علم بولس عن بعثة مسيحية يهودية تتدخل في الكنائس التي أسسها، مما عجّل بكتابة رسالة غلاطية، وبعد ذلك بوقت قصير عُقِدَ اجتماع لقادة الحركة والإرسالية المسيحية في اورشليم لحسم هذه القضية {أعمال 15})[29]. ورغم براعة ديفيد سيلفا في كتابه هذا الا انَّه في هذا النص فاته أنَّ رحلة بولس وبرنابا كانتا الرحلة الاولى لبولس الى مدن حوض البحر المتوسط، حوالي (46-48)م ومؤتمر اورشليم حوالي (49-50)م بينما رسالة بولس الى غلاطية كتبها بولس، بحسب التقليد الكنسي، في رحلته الثالثة حوالي حوالي (53-57)م، وكان مساره في هذه الرحلة كالتالي: [أَنْطَاكِيَةَ - غَلاَطِيَّةَ - فِرِيجِيَّةَ - أَفَسُسَ {بقي فيها اكثر من 2 سنة و3 أشهر وهي عاصمة مقاطعة أَسِيَّا الرومانية غرب الأناضول}، ومنها ذهب على الاقل بزيارة واحدة الى أخائِيَّة[30]. وفيها: كتب بولس رسالته الاولى الى اهل كورنثوس، ورسالته الى اهل غلاطية]، فيكون بولس قد كتب رسالته الى اتباعه في غلاطية حوالي سنة 55م، أي بعد خمس سنوات من مقررات مؤتمر اورشليم، فإذا كانت هناك بعثات من "اليهود المسيحيين" شكّلت الدافع لكتابته رسالة غلاطية فهذا يعني ان تلك البعثات من اليهود المسيحيين لم تلتزم بمقررات مؤتمر اورشليم، أو ان مقررات اورشليم لم تكن كما ذكرها كاتب أعمال الرسل! ويستبعد ان لا تكون بعثات اليهود المسيحيين ملتزمة بمقررات قادتها في مؤتمر اورشليم، وإلا لذكر بولس ذلك، ولأستند في تبشيره الى مقررات مؤتمر اورشليم، وهو ما لم يفعله! وحتى ما ذكره بولس في رسالة غلاطية (2: 1-10) فليس هناك جزم بانَّ المقصود بها احداث مجمع اورشليم، وحتى اذا افترضنا انها تخص هذا المؤتمر فهو لم يذكر فيها مقررات المؤتمر وفيما اذا كان اكابر الرسل تلاميذ المسيح قد قرروا عدم إلزام المسيحيين من أصل وثني بالختان!
كما ان اول رسالة لبولس، وفق التقليد الكنسي، ورد فيها موضوع الختان هو رسالته الاولى الى اتباعه في كورنثوس (19:7) في رحلته الثانية حوالي (53-57)م، وكتب قبلها رسالتاه الى اتباعه في تسالونيكي في رحلته الثانية حوالي (50-52)م ولم يتطرق فيهما الى موضوع الختان ولا الى مقررات مجمع اورشليم 49/50م!! مما يثير الشك أكثر فأكثر حول صحة نسبة رسالتا تسالونيكي الى بولس! كما ان ذلك يكشف الى اننا لا نملك دليلاً على إنَّ بولس كان يبشّر بعقيدته في الختان قبل حوالي سنة 55م!!
وكتب ديفيد سيلفا ايضاً حول رسالة غلاطية: (المعلمون المنافسون ورسالتهم. ترك بولس غلاطية مقتنعاً ان عمله بين المتجدّدين[31] الغلاطيين ارتكز على أساس راسخ. فماذا حدث ليُزعزَع ذلك الاساس في الأشهر التي تلت زيارته؟ من جهةٍ، لا يمكننا أن نفترض أن بولس قد أجاب عن كل سؤال. فبينما تابع المتجدِّدُون الغلاطيون حياتهم الجديدة، مُتفكرين بالمزيد في اختبارِهِم، وعلى الارجح بالأسفار المقدَّسة، لا بُدَّ أنَّه برزت أسئلة جديدة امامهم. ومن ناحية أخرى، من الواضح انَّ معلمين آخرين تواجهوا مع المسيحيين الغلاطيين، مثيرين أسئلة جديدة وموجّهين أسئلة أخرى بطريقةٍ جعلت عمل بولس بينهم موضع تساؤل. لم يُسَمِّ بولس أبداً هؤلاء المعلمين المنافسين، ولكنّه يتكلم مراراً وتكراراً عن اولئك "الذين يزعجونكم" {غلاطية 7:1 ، 10:5}، الذين يريدون "يحوّلوا إنجيل المسيح" {غلاطية 17:4}، الذين يصدونكم "حتى لا تطاوعوا للحق" {غلاطية 7:5}، الذين يتمنى بولس عنهم قائلاً "يا ليت الذين يقلقونكم يَقطعون أيضاً" {غلاطية 12:5}. يعزو بولس لهؤلاء المعلمين المنافسين الدوافع الدنيئة بأن يجعلوا الغلاطيين معتمدين عليهم لأجل اجتوائهم في شعب الله {غلاطية 17:4}، وبأنَّهم يسعون ليصنعوا منظراً حسناً ليعزِّزوا كرامتهم في بعض الحلقات وذلك بجعلهم الغلاطيين يقبلون الختان {غلاطية 6: 12-13}، وبكونهم أكثر جبناً من أن يتحملوا المقاومة التي تُسببها الكرازة بالإنجيل {غلاطية 11:5، 12:6}. فمن هم إذاً أولئك المعلمون المنافسون؟ يُجمع الدارسون إجمالاً على التأكيد بأنَّهم يُمثلون بعثة أو إرساليّة أخرى من اليهود المسيحيين للأمم، وعلَّموا حفظ التوراة كنتيجة طبيعية لازمةٍ للمجيء إلى المسيح. لا بُدَّ أنَّ هذه الإرساليّة قد بدأت بشكل مستقل عن أي اهتمام لما كان يفعله بولس، ولكنها تَظهر في سفر الأعمال ورسالة غلاطية كإرسالية تنظيف، التي تَبِعَ مُعلموها طُرُقَ بولس في محاولتهم الإتيان بالمسيحيين الأمم الى اتّباع التوراة والختان. حقاً، أرادوا المحافظة على يهوديّة الحركة المسيحية الجديدة وأن يبقوها متجذِّرة بعمقٍ في اليهوديّة. فاليهوديّة، في نهاية المطاف، تستطيعُ التساهل مع الفِرَق المسيحيانية، ولكن ليس إنكارها للمميّزات المركزيّة للهويّة اليهوديّة {كالختان وكطاعة التوراة}. ينعكس نشاط هذه البعثة أو الإرساليّة في اعمال 15: 1-4، الذي يُخبِر عن مسيحيين يهود من اليهوديّة جاؤوا إلى الكنائس التي خَدَمَ فيها أو أسّسها بولس وبرنابا، محاولين فرض الختان وحفظ التوراة على المتجدّدين هناك. يشير بولس الى هذه البعثة المنافسة في فيلبي 3: 2-21 كدلالة على أفضليّة نموذج بولس الايجابي عن التلمذة. ولكن غلاطية[32]، على أية حال، تُظهر الصورة الاكمل للإرساليّة المنافسة، بالإضافة الى الرفض الكامل لإنجيلها. كان أعضاء هذه الإرسالية يتحركون من دون شكّ بدافع لاهوتي. فالإرساليّة المنافسة أرادت أن تحافظ على كمال العهد، واضعةً عمل المسيح في إطار قرينة هذا العهد {التوراة}. كان المسيح لا يزال هو الذي أتى بالنور الى الأمم، والذي أثَّرَ بتجمّع الأمم في آخر الأزمنة، ولكن المسيح سيُتَمِّم هذا الأتيان بالأمم الى الشعب اليهودي بالجُملة، عبر ختانهم وجعلهم يحملون على أنفسهم "نير التوراة" كما كان هؤلاء مهتمّين أيضاً بوحدة الكنيسة. وعلى مثال بولس، حاولوا تمكين اليهودي والأممي أن يجتمعا معاً في المسيح في جسدٍ واحدٍ عابد، جسد المفدِيِّين الواحد. وعلى خلاف بولس، آمن هؤلاء بأنَّه كان من الجوهري أن يُغيّرَ الأمم لا اليهودُ، سلوكهم، ليجعلوا هذه الشركة ممكنة)[33]. وفي الحقيقة فإن الكاتب (ديفيد سيلفا) اراد تحجيم وتصغير الجبهة المنافسة لبولس ونشاطه التبشيري بإختصارهم بكونهم فقط "بعثة" أو "إرسالية" من اليهود المسيحيين! لكنه لم يتطرّق الى اولئك الذين ارسلوا هذه الارسالية، ومَنْ هم اشخاص تلك الارساليات وما هي المزايا التي كانوا يتمتعون بها بحيث كانوا يتمكنون ان يؤثروا بالمؤمنين الجُدد الى هذه الدرجة المقلقة لبولس! فهل كان هؤلاء ليتمكنوا أن يفعلوا ذلك لولا أنّهم كانوا على صلة وثيقة بالمسيح وتلاميذه من أكابر الرسل!
ويستمر ديفيد سيلفا بالتحدث عن منافسة تعاليم ارساليات "اليهود المسيحيين" لتعاليم بولس، فيقول: (كان المعلمون المنافسون مدفوعين إجتماعياً بغيرتهم للتوراة والتزامهم بحفظ شعب الله مميَّزاً عن كافة شعوب الأرض، تطبيقاً لمعايير اللاويين ولتعريفات القداسة، وبكلمات أخرى. الشائعات المغرضة عن بولس في أورشليم { أنظر أعمال 20: 20-21} هي أنّه كان يقودُ يهودا ليتركوا التوراة وليتخلُّوا عن العهد. ولم يكن هذا غير دقيق بالتمام. فبولس نفسه أصبح يهودياً لليهود، وامميّاً للأمم، منتهكاً معايير الطهارة في التوراة {خاصة التفسير الفريسي لهذه المعايير}وذلك بتناوله الطعام مع مهتديه الأمم، وربما بأكله طعاماً غير ملائم لليهود. لقد شجّع رفقاءه اليهود في العمل على أن يقوموا بفعل الأمر نفسه طارحاً جانباً لأجل الإرسالية والإنجيل تلك القيود من داخل التوراة الموضوعة لحفظ اليهود من الاشتراك بحريّة مع الأمم، مما قد يعرضهمللنجاسة بسبب هذه الاحتكاكات. وعلاوة على ذلك، شجّع الذين تجدّدوا معه من الأمم، "لذلك اقبلوا بعضكم بعضاً كما أنَّ المسيح أيضاً قبلنا لمجد الله" {رومية 7:15}. ربما شُوهِدَ بولس وهو يُشجّع الناس بالإرتداد عن العهد. بينما افتقر الى القوة السياسيّة التي تمتّع بها ياسون أو مينيلاوس لفرض الهلينية، لكنّهبدا بأنّه ينجح في التساهل بالتوراة ليتسنى لليهود والأمم أن يختلطا معاً بحريّة. لقد تمَّ تهديدُ الحدود الفاصلة، وكان على أولئك الحريصين على حفظ كمالِ {أو تكامل} هيكلية اليهوديّة، أن يسارعوا بالتصرف الحاسم. اعتبرت الإرسالية المنافسة نشاط بولس كتهديد للمجموعة الأوسع {الشعب اليهودي}، الذين كان ينبغي الحفاظ عليهم. كان هؤلاء المعلمون واعين بدقة بأن المرتدّين[34] كان يمكن أن يُضطهدوا من قبل الغيورين[35] {كما فعل بولس نفسه قبل تجديده[36]، غلاطية 1: 13-14، 23}. غَيرة كهذه كانت مُتجذِّرة بثبات في تقليد فينحاس، الذي قتل إسرائيلياً وسُرِّيَّتَهُ الموآبية وهكذا كسب لنفسه عهد الكهنوت وأنقذ إسرائيل من الفناء بداءٍ معدٍ بسبب ارتدادها {عدد 25: 1-13}. وكان هذا متجذّراً في تقليد ماتاثياس وأبنائه عند بُزُوغِ فجر الثورة المكابية، عندما طهّروا المرتدّين من وسط إسرائيل {1مكابيين 2: 15-28، 42-48، 6:3، 8}. لهذا فإنَّ حركة هامة في غطار المسيحية اليهوديّة، أرادت أن توضّح لكل من غير المسيحيين ومن اليهود المسيحيين أنَّ حركة يسوع لم تكن بأي شكل من الأشكال حركة روَّجت للارتداد. ومن خلال تعزيز تمسك {المسيحيين} اليهود بالتوراة، وفوق ذلك بجلب الأمم الى نور الناموس، استطاع المعلمون المنافسون أن يُخلِّصوا أنفسهم، والكنيسة في اليهودية، وكنائس الشتات حيث كانت الجماعات اليهودية قويّة، من الاضطهاد الداخلي الذي كان يمكن أن يجتذبه الارتداد. نرى دليلاً على هذا بشكل واضح في الاشارات الى الاضطهاد عبر رسالة غلاطية {1: 13-14، 29:4، 11:5، 12:6}. حيث تُسبِّب كلمة الصليب اضطهاداً بينما تُنقِذ الكرازة بالختان من الاضطهاد، وحدهم اليهود كانوا يقومون بذلك الاضطهاد، وكان المعلمون المنافسون يُخففون الضغط بالتأكيد من تلك الزاوية)[37].
الهوامش:
[1] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص18.
[2] في رسالة بولس الاولى الى اتباعه في مدينة كورنثوس (12:6): («كل الأشياء تحل لي»، لكن ليس كل الأشياء توافق. «كل الأشياء تحل لي»، لكن لا يتسلط علي شيء).
[3] رسالة بولس إلى أهل كولسي (4: 10و11) الترجمة الرعائية، و النص بحسب ترجمة الفاندايك: (يسلم عليكم أرسترخس المأسور معي، ومرقس ابن أخت برنابا، الذي أخذتم لأجله وصايا. إن أتى إليكم فاقبلوه. ويسوع المدعو يسطس، الذين هم من الختان. هؤلاء هم وحدهم العاملون معي لملكوت الله، الذين صاروا لي تسلية).
[4] سنرى في فقرة قادمة ان هذه هي ايضاً رؤية الامبراطور الروماني نيرون للمسيحيين، بإعتبارهم جزء من الحركة اليهودية المضادة للهلينية في روما، ولذلك اتهم اليهود المسيحيين بإحداث حرائق روما!
[5] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا - ج1 ص485.
[6] أليس من الغرابة بمكان أنّه لم يصلنا أيّة تفاصيل عن نشاط بولس في بلاد العرب، ولم يهتم اتباعه بتتبع هذا التراث والحفاظ عليه!!
[7] مروج الاخيار في تراجم الابرار / الأب بطرس فرماج اليسوعي / طبعة ثانية / مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين في بيروت سنة 1880م – ص244.
[8] مروج الاخيار في تراجم الابرار / الأب بطرس فرماج {مصدر سابق} – ص245. ويقول بطرس قرماج تتمة للنص السابق يمثل رأيه حول سبب هذا الاسلوب في تعامل يعقوب بن كلاوبا مع اليهود فيقول: (وبهذه الوسيلة كان يستميل قلوبهم رويداً رويداً الى ان يتركوا الطرائق الموسويّة)! وهذا رأي خاص ببطرس قرماج، ونحن في هذا البحث اخذنا بروايته وتركنا رأيه، لأنه رأي يخالف طبيعة القديس يعقوب التقيّة والبارّة، فلم يكن يتصنّع الود لليهود ليكسبهم للمسيحية، بل هي حقيقته انه كان دمث الاخلاق يعامل الناس بالحسنى فيداويهم ويعاملهم بحكمة واتزان وبرّ، ولأنه لم يكن يرى نفسه سوى يهودي يعمل بشريعة موسى (التوراة) وتعاليم المسيح، معاً، كما هو حال بقية تلاميذ المسيح.
[9] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص38.
[10] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص34 و35.
[11] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 39.
[12] انجيل متى (18:16).
[13] رسالة بولس الأولى إلى اتباعه في مدينة كورنثوس (6:15).
[14] مقال بعنوان (دراسة في التقليد الارثوذكسي)، بقلم جون ادوارد، منشور في الموقع الالكتروني (فريق اللاهوت الدفاعي)، بتاريخ 2 يناير 2021م، عبر الرابط: https://bit.ly/3bxdYFk
[15] سنذكر، إنْ شاء الله، تفاصيل هذا الملخّص بصورة مختصرة نقلاً عن كتاب قصة الحضارة لول ويدورانت، في الملحق الخاص بهذا المقال.
[16] انظر {قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية} تحت عنوان (شرح كلمة بَرْسَابَا | يَهُوذَا)، منشور في موقع الانبا تكلا هيمانوت القبطي الآرثوذكسي، عبر الرابط: https://bit.ly/3ww6hHS
[17] قصة الحضارة ، عصر الايمان – ج14 ص48.
[18] منطقة الغال تقع حالياً في فرنسا وبلجيكا.
[19] قصة الحضارة ، عصر الايمان – ج14 ص49.
[20] شلومو ساند (زاند) (بالعبرية: שלמה זנד) (ولد في 10 سبتمبر 1946) هو بروفسور تاريخ إسرائيلي بجامعة تل أبيب. تخرج عام 1975 من جامعة تل أبيب. في الفترة مابين 1975 و1985، قام شلومو بالدراسة والتدريس في باريس وحصل على الماجستير في التاريخ الفرنسي ومن ثم الدكتوراه عن بحثه حول جورج سيرويل والماركسية. وهو مؤلف كتاب اختراع الشعب اليهودي. تتمحور أبحاثه التاريخية حول القومية، الأفلام والتاريخ الثقافي لفرنسا كما ألف كتاب اختراع أرض إسرائيل، وكتاب "كيف لم أعد يهودياً". {المصدر: الموقع الالكتروني مكتبة نور}.
[21] الاغيار يقصد بهم الوثنيون من الامم، اي غير اليهود.
[22] إختراع الشعب اليهودي / شلومو ساند / ترجمة سعيد عيّاش ، تدقيق الترجمة أسعد زعبي / مراجعة وتقديم: أنطوان شلحت / الأهلية للنشر والتوزيع ، 2011م - ص202.
[23] إختراع الشعب اليهودي / شلومو ساند – ص(194-201).
[24] إختراع الشعب اليهودي / شلومو ساند – ص205.
[25] إختراع الشعب اليهودي / شلومو ساند – ص205.
[26] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج1 ص324.
[27] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص34.
[28] ان أسفار العهد الجديد، وبقية المصادر المسيحية التي تتحدث عنم تواجد لليهود في مدن حوض البحر المتوسط، شاهدة على ان اليهود لم يستوطنوا فلسطين وحدها بل اعرض عدد كبير منهم عنها لصالح المدن اليونانية والثقافة الهلينية، وذلك قبل تهديم الهيكل من قبل الرومان سنة 70م. فكيف يتحدث الصهاينة اليوم عن حق تاريخي لجميع يهود العالم في فلسطين!!
[29] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص30.
[30] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص33.
[31] "المتجدِّدُون" تعبير استخدمه المؤلف للتعبير عن المؤمنين بتعاليم بولس (المسيحيين).
[32] يقصد رسالة غلاطية المنسوبة الى بولس.
[33] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص(45-47).
[34] يقصد الكاتب بـ "المرتدّين": المعتنقين للايمان المسيحي من الامم او اليهود.
[35] يقصد بـ "الغيورين": اليهود الملتزمين بالعمل بالتعاليم، والغيورين على تطبيقها، سواء كانوا من اليهود المسيحيين أو الفريسيين او الصدّوقيين او الكتبة.
[36] "قبل تجديده" أي قبل إعلانه الإيمان بالمسيح.
[37] مقدمة للعهد الجديد / ديفيد أ. دِه سيلفا – ج2 ص(47-50).
|