تبرز ظاهرة الهجاء في شعر دعبل، بشكل يجعلها تطغى على بقية أغراضه من خلال أبيات شعره، ولم يكن هجاؤه للخلفاء والحاكمين عهدئذ، إلا بدافع العقيدة والمبدأ، وموالاة أهل البيت (ع) فجاء (هجاؤه هادفاً، لكشف ما اعتور في مهجويه من معايب وانحرافات سيئة، حادت بهم عن جادة الصواب، وفي تقديره لعله قادر على تقويمها)، ودعبل بوصفه شاعراً شيعياً، كان يرى في بني العباس مغتصبين للخلافة من أصحابها الشرعيين، فالنزاع بين الجانبين العلوي والعباسي، ليس في وراثة الخصال الأخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي (ص)، وأحقية هذا او ذاك في وراثتها؛ لأنها لا تشكل حقاً يتنازع عليه فريقان، وانما النزاع حول حق يدعيه الجانبان.. فمن هنا كان الشاعر يرى عدم شرعية خلافة بني العباس، ولا يراهم إلا ملوكا غاصبين متجبرين، لذلك، كان هجاؤه لوناً من ألوان الكفاح السياسي الذي عرفته الشيعة، كما عرفته الأحزاب الاخرى، فلذلك كانت أسباب هجائه نابعة من عقيدته الشيعية التي آمن بها، وأخلص في الدفاع عنها، متعرضاً لغضب الخلفاء العباسيين وسخطهم؛ لأنه يرى أن مقاومتهم، والاعلان عن صور الظلم التي مارسوها، لم تكن إلا عن طريق التنديد بهم.. لذا عاش حياته مطارداً مشرداً، يحمل خشبته على كتفه خمسين سنة، يدور على من يصلبه عليها، فلم يجد من يفعل ذلك.
وتقف رائية لدعبل الخزاعي، في مقدمة مراثيه لآل البيت (ع)، وهذه المرثية قالها بعد وفاة الإمام الرضا (ع) مسموماً، وقد اتهم المأمون بذلك، فعاد الشاعر الى صفوف المعارضة أشد عنفاً، فاستهل قصيدته التي بناها على وفق مخطط القصيدة العربية القديمة، من حيث الاستهلال بالنسيب، ومن ثم التخلص الى غرض البكاء على الحسين وأهل بيته (ع). ومن المعروف أن اسلوب الجمع بين الغزل والرثاء، هو اسلوب عرف في الشعر القديم؛ كما ان ابتداء مراثي شعراء الشيعة بالغزل، صار سُنَّةً ساروا عليها، وذلك لاظهار عزوفهم عن الحياة وملذاتها، وانشغالهم بمصاب آل البيت (ع)، فقال:
تأسَّفَتْ جارتي لمّا رأت زَوَرْي * وعدَّتِ الشيبَ ذنباً غير مُغتفَرِ
تَرجُو الصِّبا بعدما شابتْ ذوائبُها * ذكرَ الغواني، وأرضاني مِن القَدَرِ
ثم ينتقل الشاعر الى مواساة نفسه بذكر آل البيت (ع)، ويتأسى بهم قائلاً:
لولا تشاغلُ نفسي بالأُلى سَلَفوا * من أهلِ بيتِ رسولِ الله لم أقَرِ
وفي مواليك للمحزونِ مشْغَلةٌ * من أنْ تبيتَ لمفقودٍ على أثَرِ
كم من ذراع لهم بالطَّفِّ بائنَةٍ * وعارضٍ، من صعيدِ التُربِ منعفرِ
أنسى الحُسَينَ ومسراهم لمقتلهِ * وهم يقولون : هذا سيِّدُ البشرِ
ثم يتوجه الشاعر بالخطاب الى الأمة، ويسميها (أمة السوء)، ويبيّن هذا السوء الذي تشارك فيه جميع الأحياء، كما يتشارك لاعبو الميسر.. ويعجب الشاعر من مفارقة تاريخية، تمثلت في مشاركة بني العباس في قتل آل بيت النبوة؛ فان كان الأمويون معذورين؛ لأن عداوتهم للنبي (ع) تاريخية، فما عذر بني العباس؟ فيقول:
يا أُمةَ السُّوء ما جازيتِ أحمدَ عن * حُسنِ البلاءِ على التنزيلِ والسُّوَرِ
وليس حيٌّ من الأحياءِ نعلَمُهُ * من ذي يمانٍ ومن بكرٍ ومن مُضَرِ
إلاّ وهم شركاءٌ في دمائِهمُ * كما تشاركَ أيسارٌ على جُزُرِ
قتلاً وأسراً وتحريقاً ومنهبةً * فعل الغُزاة بأرض الرومِ والخَزَرِ
أرى أُميةَ معذورين إنْ قتلوا * ولا أرى لبني العباس من عُذرِ
أبناءُ حربٍ ومروانٍ وأُسرتهم * بنو معيطٍ ولاةُ الحقدِ والوغرِ
قومٌ قتلتم على الاسلامِ أوَّلَهُم * حتى اذا استمكَنوا جازوا على الكُفرِ
ثم يقود الشاعر هذا التأمل التاريخي المنطلق من منظور ديني، الى أن يجد العذر للأمويين على أفعالهم؛ لأنهم أعداء الهاشميين في الجاهلية والإسلام. أما العباسيون فإنهم بنو عمهم، فليس لهم عذر فيما فعلوا. ثم ان الشاعر في هذه القصيدة، خصّ هارون الرشيد بالهجاء، واصفا هارون بالرجس، وراح يقابل بين قبر الامام الرضا (ع)، وقبر هارون الرشيد في مدينة طوس بايران، وهو يتساءل كيف يجتمع الضدان في مكان واحد، فيقول:
قبران في طوسَ : خيرُ الناسِ كُلِّهم * وقبرُ شرِّهمُ، هذا من العبرِ
ما ينفعُ الرجسَ من قرب الزكيِّ ولا * على الزكيِّ بقربِ الرجسِ من ضررِ
هيهات كُلُّ إمرئٍ رهنٌ بما كسبت * لهُ يداهُ، فخُذ ما شئتَ أو فَذَرِ
مما يلاحظ أن الشاعر، عمد الى الاتكاء على النص القرآني (كل نفس بما كسبت رهينة)؛ لأنه المعين الصافي، وهذا متأت من وعيه العميق بقيمته أولاً، ولما للغته من تقوية لنصه، وأثره الفني الذي يؤديه في خطابه الشعري، وهذا ما يسميه البلاغيون بـ(الاقتباس) وهو (ان يضمّن الكلام شيئاً من القرآن أو الحديث، لا على انه منه).
إن نجاح هذه الصور، يتجسد في انها قائمة على حقيقة كان قد ذكرها دعبل في أبياته، وهي تجاور قبري الإمام الرضا (ع) وقبر الخليفة العباسي هارون الرشيد. ولو عقد الباحث مقارنة بين تائية دعبل ورائيته، لوجد أن التائية أنشدها دعبل بين يدي الإمام الرضا(ع)، بعد مبايعة الإمام (ع) بولاية العهد، بدليل اعطاء الامام (ع) الدنانير التي ضربت باسمه، هذا من ناحية، أما الناحية الثانية، إن المناخ الشعبي العام كان مواليا للامام علي (ع)، إذ كان الناس متعلقين بهم تعلقاً شديداً، ومما يؤكد ذلك شراء الناس للدنانير التي وهبها الامام الرضا (ع) لدعبل بعشرة أضعاف قيمتها، فضلا عن ان الناس كانوا مهتمين بهذه التائية، ينشدونها أو يرغبون في سماعها، ولعل هذا يفسر استجابة المأمون لهذا الجو، وتوليته الإمام الرضا (ع) ولاية العهد.
أما الرائية، فقد أنشدها بين يدي المأمون، بعد ان استأمنه، وكانت بعد وفاة الرضا (ع)، حتى ان المأمون لما انتهى دعبل من انشادها، ضرب بعمامته الأرض، وقال: صدقت واللهِ يا دعبل.. ومن هذا يتضح أنَّ التائية رسمية، والرائية شعبية؛ ومهما يكن، فان في أكثر شعر دعبل صوراً حية، ناطقة عما كان يحسّ به من الآلام والنكبات، وما لقيه من صنوف الاضطهاد، بسبب مذهبه وتشيّعه الشديد لآل بيت الرسول (ع)، فكان يبكي قتلاهم، ويهجو أعداءَهم، وفي مقدمتهم حكام بني العباس.. واذا خوطب في ذلك، قال قولته المشهورة في التحدي: (لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي، أدور على مَنْ يصلبني عليها، فما أجد مَنْ يفعل ذلك). ولا نغالي إذا ما عُدَّ في الطليعة من شعراء الشيعة الذين نهضوا بالجانب التصويري المؤثر.
ومن أسباب رثاء دعبل لآل البيت (ع)، هو أن هذا الطائر الحبيس – على حد وصف د.يوسف خليف - أراد الخروج الى الفضاء الرحب، بعد أن كثرت محاولات الخروج في العصر العباسي على النظام، لما كان فيه من تعسف، ودعبل الراغب في الافلات من حبس السلطان؛ لأنه عاش بداية حياته غلاماً يتشطر ويصحب الشطار, وقد أدت به صحبته للشطار، واشتراكه في مغامراتهم، الى الخروج من الكوفة مطارداً، وهذا يشير الى نزعة تمرد متأصلة فيه، سرعان ما وجدت في مذهب آل البيت (ع) ضالتها، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه ولد في الكوفة المعروفة بولائها لآل البيت (ع)، كما انه ينتمي الى أسرة عُرفت بالشرف والتقى والولاء لآل البيت (ع).
|