لعل أبرز ما يمكن ملاحظته في العمارة العراقية القديمة، وبغض النظر عن التخطيط، هو التآلف والانسجام المتكاملان بين الشكل والمضمون في العناصر العمارية، وأن هذا الإنسجام يعكسه شكل قوالب اللبن، وثم الآجر، وأسلوب ترتيبه في البناء من مرحلة إلى أخرى، فقد استخدم في تشييد الأبنية الأولى الكتل الطينية (الطوف)، ومن ثم تطور استخدام تلك الكتل الطينية بوضعها في قوالب، وتقطيعها وتجفيفها تحت أشعة الشمس، وسُمّيَت باللبن..
ثم تطورت تقنية استخدام اللبن من خلال فخره بالنار، وهو ما عُرف بالآجر.. كما استطاع المعمار أن يبتكرَ أشكالاً عديدة للآجر، وكان لكل منها استخداماتها الخاصة، فوجد منها ما هو على شكل مستو أو محدب، أو متوازي الأضلاع، أو مربع الشكل.. مما يعكس براعة المعمار العراقي القديم في اختيار الشكل الملائم للبناء بهذه المواد المتوافرة، وتخطيط عناصره منها لتطوير تقنيتها.
وبذلك أدرك المعمارُ في العراق القديم، نتيجة تزايد خبراته في عمليات البناء، علاقة مواد البناء مع بعضها البعض، وعلاقتها بالعناصر التي يشيدها بهذه المواد؛ وقد استمر هذا التطور المعماري في تشكيلات المباني وتخطيطها وعناصرها، بعد اكتشاف أو استخدام مواد بنائية جديدة، كان لها أثرها في تحسين تقنية تشييد المباني، بالمقارنة مع المواد القديمة، ولا يزال هذا التطور والإبداع مستمراً؛ وبذلك فإن طبيعة البيئة، وما يتوافر فيها من مواد إنشائية، كانت الأساس في إظهار المباني (البيوت والمنشآت الأخرى) بشكلها المنسجم والمتطور، كما أن ديمومة تلك المباني واستمراريتها، كانت محددة زمنياً، تبعاً لقدرة كل مادة على مقاومة الظروف الطبيعية، مما كان يستلزم صيانتها مجدداً في كل فترة، أو هدمها بعد انهيارها، وبنائها من جديد.
ومن خلال التواصل التاريخي لعمليات البناء عبر الزمن، أدرك المعمارُ إمكانية تطويع كل مادة مستعملة، وتشكيلها على وفق تقنية البناء، فضلا عن معرفته بعمليات استخدام تلك المواد، ومقاومتها إلى جانب تكوين تشكيلات عمارية، لإضفاء عناصر ومظاهر زخرفية تزيينية، ذات قيم جمالية خاصة بها.. وهكذا يتضح مما سبق عرضه، طبيعة العلاقة بين المادة والمكان، وإبداع المعمار في تقنية تشكيل المباني، وهو ما يستلزمُ التركيز على دراسة عناصرها، والتطور الحاصل في تقنية تشييدها.
|