• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : شيء عن العقلانية الحديثة .
                          • الكاتب : سلمان عبد الاعلى .

شيء عن العقلانية الحديثة

يمكن التأريخ لبداية العقلانية الحديثة منذ الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) الذي أسس لثورة علمية بالاعتماد على الملاحظة والتجريب، ومن ثم جاء الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت (1596-1650) لينطلق من الشك وليشكك في كل شيء لم يتم البرهنة عليه علمياً، وليقول مقولته الشهيرة: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، ومن بعده يأتي دور الفيلسوف الألماني المعروف إيمانويل كانط ومن جاء بعده من فلاسفة القرن التاسع عشر وما بعده ليؤسسوا المنهج الجديد للعقلانية الحديثة بالاعتماد على الملاحظة والتجربة والاستدلال كأساس لتكوين المعرفة.

ومن هنا يأتي هذا السؤال: هل العقلانية لم تكن موجودة في العصور القديمة حتى يؤرخ لها من هذه الحقبة التاريخية؟! والجواب على هذا السؤال هو أن العقلانية هي موجودة منذ القدم، وهي موجودة منذ الفلسفة اليونانية، ولكنها لم تكن موجودة بالكيفية التي هي عليها الآن، فعقلانيتهم تختلف عن العقلانية الحديثة ولها خصائصها وطريقتها المختلفة عنها.

فالعقلانية الحديثة تختلف عن العقلانية القديمة في كونها ترتكز في المعارف التي تكتسبها على العقل الفردي والحس والملاحظة والتجربة، فالملاحظة والتجربة في العقلانية الحديثة هي أساس المعرفة، وهذا ما أدى إلى رفض العقلانية التأملية أو التجريدية ومنهج القياس المنطقي الأرسطي الذي جاءت به الفلسفة اليونانية، وكذلك أدى ذلك إلى إهمال المعرفة المعتمدة على الغيبيات والماورائيات (الميتافيزيقيا) التي تعتمد عليها الأديان، لأن المعرفة الحديثة ترتكز على الاستقراء والتجربة المحسوسة ولا تركز على نواحي تأملية وتجريدية بحتة لا يمكن اختبارها والتأكد من مصداقيتها كما يقولون!

لذلك نجد البعض يتصور بأن العقلانية الحديثة هي ضد الدين، وذلك لأنها ترفض الاعتماد على المعرفة الغيبية، وهذا غير صحيح، فحتى الفلاسفة الذين أسسوا لهذه العقلانية (كـ بيكون وديكارت وكانط) كانوا يركزون على قضية الإيمان بالله سبحانه وتعالى، إذ أنهم لم يكونوا ملحدين، بل كانوا مؤمنين وموحدين، ولكنهم كانوا يعتمدون في إيمانهم على منطلقات علمية وليس غيبية وما أكثرها؟!

مهما يكن الأمر، فإنه لا شك بأن العقلانية بشكلها الحديث قد ساهمت في إحداث نقلات نوعية كبيرة لا يمكن إنكارها أو الاستهانة بها في كل الميادين العلمية والفكرية، وذلك لاعتمادها على التجربة والاستقراء والاستدلال بدلاً من القياسات الصورية الأرسطية أو التأملات التجريدية البحتة.

بالإضافة إلى ذلك، نجد أن هذه العقلانية قد ساهمت في إحداث هزات عنيفة تمكنت من زلزلة طريقة التفكير التقليدية السائدة ومن محاربة الجهل والخرافة والتخلف، وذلك لتأكيدها واعتمادها على الدليل في تشكيل المعرفة، ومنها المعارف الماضية، أي المتعلقة بالتراث، حيث تم التعامل معها ليس على أساس الحتمية والتقديس والتبجيل له ولشخصياته وإنما على أساس النقد والاستدلال العلمي.

ولكن البعض نجدهم يرفضون هذه الأساليب العقلانية (كلياً) ويتجاهلونها ولا يعتمدون عليها حتى الآن، لأنهم لا يُجيدون التحرر من القناعات الفكرية المسبقة المتكونة في ذاكرتهم التاريخية، ولا يريدون كذلك أن يروا الأمور على واقعها -أو لا يستطيعون ذلك- ولكنهم يريدون أن يروها كما هي في أوهامهم وتصوراتهم، ولهذا نرى البعض لا تتغير قناعاته ولا تهتز ولا تتزحزح ولا تتحرك ولو بنحو بسيط، فمهما حاولت جاهداً أن تغيرها، ومهما أتعبت نفسك بالإتيان بالأدلة والبراهين القوية المزلزلة فإن ذلك كله لا ينفع !

ولا يظن البعض بأننا لا نرى أية سلبية أو ملاحظة على العقلانية الحديثة، والتي من أبرزها حصرها لوسائل المعرفة في التجربة والاستقراء فقط، وإهمالها للحقائق التي جاءت عن طريق الوحي، وهذه الملاحظة التي نأخذها على العقلانية الحديثة لا يعني بأننا نقر أو نصحح أو نصدق كل من يدعي بأنه يعتمد في معارفه على الوحي، فهذا الأمر يحتاج للمناقشة، وذلك لأن لدينا العديد من التساؤلات والإشكالات التي تناقش في محلها والتي لسنا بصدد مناقشتها الآن، غير أن هذا كله لا يجعلنا نقفز فوق الحقائق الإيجابية والمكتسبات الكبرى التي حققتها العقلانية الحديثة في مختلف الميادين العلمية والفكرية كما يفعل البعض من المعادين لها.

ويبقى السؤال الهام وهو: إذا كنا نرفض العقلانية الحديثة، فما هي الحلول والبدائل (العملية) التي يمكن أن نتخذها كبديل عنها؟!

-----------

وللحديث تتمة مع مقال بعنوان: (رأيٌ في الأنسنة والعقلنة)




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=15722
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 04 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14