إنّ الحقبة الزمنية التي نشط فيها الإمام الصادق (عليه السلام) لإرساء دعائم منهج أهل البيت (عليهم السلام) ورسم خطوطه التفصيلية تبلغ ثلاثة عقود ونصف عقد تقريباً.
وقد تميّزت بأنها كانت تعاصر نهايات الدولة الأموية، وبدايات الدولة العباسية، وهي فترة ضعف الدولتين سياسيّاً، وبالتالي كانت فرصة متميّزة وفريدة لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الأصيلة. وقد عرف أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم أتباع وشيعة جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، ووسم الشيعي بأنه جعفري; ولهذا الوسام دلالته التأريخية ومغزاه الثقافي.
من هنا نعرف السرّ في عظمة التراث الذي خلّفه لنا الإمام الصادق (عليه السلام) ومدى سعته وثرائه في جانبي الكم والكيف معاً، إلى جانب كثرة من تتلمذ على يدي الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ممّن حمل تراثه ورواه إلى الأجيال المتعاقبة. وبهذا الصدد ينقل لنا الشيخ المظفر جملة من الاشادات والتصاريح التي أدلى بها كبار رواة أهل السنّة وعلمائهم بفضل الإمام الصادق ورجوع أئمة المذاهب وأهل الحديث إليه.
فمن البديهي ان نقدم بحوثا ودراسات ومقالات من شأنها انارة الطريق امام اولادنا ليكونوا قدوة حسنة ونموذجا صالحا في المجتمع الإسلامي، فغايتنا وضع الحقيقة امام طلابها، لكي يستوعبوا الدروس المفيدة في حياتهم اليومية، ولغرض نشر معارف ومبادئ أهل البيت ع، ومنها رد الشبهات، وافكار الحقائق التاريخية الناصعة التي حاول الاعداء في كل عصر وزمان اخفاءها، لكنهم والحمد لله عجزوا عن ذلك.
ولهذا يجب ان نتعلم الدروس والعبر في جامعة الامام الصادق (ع) وان ندرس بدقة الفكر الشيعي الاصيل الذي رسمه لنا لكي نتخلص من المفاهيم الخاطئة، وبعض الأحاديث الموضوعة، والتفاسير المعقدة والفتاوى المشبعة ببصمات الفكر الاموي التي وضعت عقبة امام وحدة هذه الامة المنكوبة.
إن امامنا الصادق (ع) كان بحق القدوة التي تستنير بها الاجيال المتعطشة للعلم، والفضيلة، والاخلاق، من نبع العترة الطاهرة المطهرة كما نطق بذلك القرآن الكريم والرسول العظيم، وقد تضافرت النصوص الواردة عن النبي (ص) والإمام علي (ع)، والأئمة الاطهار (ع) على امامته (ع) خصوصا، ولبقية الائمة المعصومين (ع) عموما، رواها جمع من الصحابة والتابعين ابرزهم سلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله الانصاري، وحذيفة بن اليمان، وأبن عباس.... الخ.
هذه بعض من النصوص العامة التي وردت بحق الأئمة (ومنهم الصادق ع) المبشرة بالائمة او الخلفاء الاثنى عشر اماما كلهم من قريش بلا زيادة ولا نقصان في الاحاديث المستفيضة منها: (روى البخاري في الصحيح عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (ص) يقول: يكون اثنا عشر اميرا. فقال كلمة لم اسمعها، فقال ابي: انه قال: كلهم من قريش) اخرجه الصحابة والتابعون وأصحاب الحديث بطرق متعددة ابرزهم الترمذي، وابو داود، والطبراني، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، والسيوطي.. وروى القندوزي في ينابيع المودة باب 77 عن جابر الانصاري قال: قال رسول الله ص: (انا سيد النبيين وعلي سيد الوصيين وان اوصيائي بعدي اثنا عشر اولهم علي وآخرهم القائم المهدي).
اما النصوص الخاصة الواردة عن النبي (ص) والأئمة المعصومين ع، ونقصد بها تسمية الأئمة الاثنى عشر ع والتي رويت بطرق كثيرة رواها قسم من الصحابة والتابعين نذكر على سبيل المثال منهم: جابر الأنصاري، والكميت، وابو الهيثم التميمي، وعلقمة بن محمد الحضرمي، ودعبل الخزاعي، وامية بن علي القيسي.. وقد جمعها الخزار القمي وغيره. وممنها مارواه الخزار القمي بسنده عن ابن عباس قال في حديث قدوم اليهودي على النبي ص. (الحديث طويل نذكر منه محل الشاهد) الى ان قال ص: (ان وصيي والخليفة من بعدي علي بن ابي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة من صلب الحسين أئمة أبرار. قال (اليهودي) فسمهم لي؟ قال: نعم اذا مضى الحسين فابنه علي، فاذا مضى علي، فابنه محمد، فاذا مضى فابنه جعفر... (الخ). اثنا عشر اماما على عدد نقباء بني اسرائيل..) (كفاية الأثر، ص12).
وقد أشاد بفضل الإمام الصادق ع وعلمه وورعه وتقواه أئمة المذاهب الاسلامية الاربعة، أولهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت، عندما سئل: من أفقه من رأيت؟ فقال: ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد... (تهذيب الكمال: 5/79 و سيرة اعلام النبلاء: 6/257). وهو القائل: لولا السنتان لهلك النعمان، وقال في حقه مالك بن انس امام المذهب المالكي: ما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علما وعبادة وورعا، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، جم الفوائد. وسئل الامام الشافعي يوما: كيف جعفر بن محمد عندك؟ فقال: ثقة (الجرح والتعديل: 2/487).
وقد اثنى عليه وشهد بحقه اهل العلم، ومحدثي ومؤرخي اخواننا السنة ومنهم الذهبي قال: جعفر بن محمد بن علي بن الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي الامام أبو عبد الله العلوي المدني الصادق أحد السادة الاعلام.. وقال في مناقبه: مناقب هذا السيد جمة.. وقال: احد الائمة الاعلام، بر صادق كبير الشأن... وقال: مناقب جعفر كثيرة، وكان يصلح للخلافة لسؤدده وفضله وعلمه وشرفه رضي الله عنه) (تذكرة الحفاظ: 1/166). وقال ابن تيمية: جعفر الصادق رضي الله عنه من خيار أهل العلم والدين. (منهاج السنة: 2/123).
بعض ما جاء في كتب علمائهم ومفكريهم في العصر الحديث ومنهم الاستاذ الشيخ ابو زهرة احد ابرز علماء الازهر في كتاب (الامام الصادق) قال: (وكان قوة فكرية في عصره، فلم يكتف بالدراسات الاسلامية وعلوم القرآن والسنة والعقيدة، بل اتجه الى دراسة الكون واسراره، ثم حلق بعقله الجبار في سماء الافلاك ومدار الشمس والقمر والنجوم، كما عنى عناية كبرى بدراسة النفس الانسانية، واذا كان التاريخ يقرر ان سقراط قد انزل الفلسفة من السماء الى الانسان فان الامام الصادق قد درس السماء والارض والانسان وشرائع الاديان، وكان في علم الاسلام كله الامام الذي يرجع اليه. فهو اعلم الناس باختلاف الفقهاء، وقوله الفصل والعدل، وقد اعتبره ابو حنيفة استاذه في الفقه).
وقد وصفه عدد كبير من معاصريه وغيرهم ممن شهدوا بفضله وعلمه او سمعوا بوصفه وجلالة قدره وسمو مقامه في المدح والثناء عليه من قبل الخاصة والعامة. وكان ع له ولخاصة تلاميذه قدرة قصب السبق في كل مجالات العلوم الكونية والارضية، ولذا فقد ازدهر عصره بالنشاطات العلمية والفكرية والثقافية، وقد اكتظت مدرسة الامام ع بطلبة العلوم حتى أصبحت من أكبر الجامعات العلمية في ذلك العصر. بحيث تخرج على يديه اكثر من الف عالم وقيل: اكثر من الف حلقة دراسية كانت تدرس بمختلف علوم المعرفة ومنها التفسير والفقه وعلم الكلام والحديث واللغة والنحو والصرف والطب والرياضيات والفلك والكيمياء والفلسفة والعلوم الطبيعية الاخرى. وروى عنه راو واحد، وهو ابان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، وقال الحسن بن علي الوشا: أدركت في مسجد الكوفة تسعمئة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد، وبرز بتعليمه من الفقهاء والافاضل جمع غفير .
|