تتخذ رواية (يوليانا) للروائي نزار عبد الستار طابع الأجواء المسيحية في طريقة بث حيواتها من ألفها الى يائها، وقد عمد فيها الروائي ببراعة عالية الى استقصاء طقوس كنسية بناسها وقساوستها ومراتبها والمناصب المناطة بها ومسمياتها، وصولا لأدق التفاصيل التي يخيل للقارىء إزائها أن الكاتب حتماً كاتباً مسيحياً وهو ليس إلا روائيا متمكنا من فنه استطاع اقناعنا بشخصيات روايته (جَجّو، بنيامين، روز، القس يوسف، ابلحد، شمونيا، اسماعيل دنحا، اراسيا، مار ادي الرسول، المطران عمانوئيل، الوجيه بطرس كني، نوئيل يلدا السادس، تريزا، بتول بقلاوة، حنا، ليلى، ياسمين ....) وهناك شخصيات كثيرة في الرواية لكنني سأقتصر الحديث فيها عن أهم شخصية فيها وهي شخصية (جَجّو) إذ أجدها تفرض هيمنتها اللفظية والشخصية والتأويلية والإحالية منذ العتبات الأولى للرواية وذلك بما شيده المؤلف إزائها من ابتداء عالي الوضوح والقصدية في الصفحة التي تلي الاهداء؛ مانحا قوة حضور الشخصية هيمنة نصية يتخذها مدخلا يفترش عليه تكاملها البنائي لاحقا، ولأجل ذلك نقل لنا سطرين مقتبسان من داخل المتن الروائي جاء فيهما " يفشل جَجّو في الهجرة إلى اميركا ولكنه ينجب حنّا ووارينا ويرى يوليانا مجددا في الموصل " .
الأشتغال الكاريزمي على شخصية (جَجّو)
يمثل (جَجّو) الشخصية المحورية في الرواية وهو أحد أبناء عائلة بنيامين التي لم تكن تنجب سوى من يحملون عاهة في عظامهم وعلة في نطقهم وقبح في شكلهم، وكان يوم مولده قد تزامن مع مجيء حارس الذخائر المقدسة الذي حمل عظمة القديسة بربارة وقد استبشروا به خيرا أن يولد لديهم ولدا معافى إلا أنه جاء طفلا يحمل بركة حارس الذخائر لكنه على هيأة اجداده، يتولى تربيته والاعتناء به القس يوسف بعد وفاة والده وانصراف امه عنه، ينشأ جَجّو على تعاليم القس يوسف فتكون شخصيته سندا لمجموعة من المواصفات التي لا تملكها الشخصيات الأخرى، أو قد تمتلكها بشكل أقل، فقد كان حضوره داخل النص محكوما بصفته الوعظية في بلدة كرمليس التي توهمَ الناس بوجود عظام القديسة بربارة وخادمتها يوليانا فيها، كان يخرج من الكنيسة ليعظ الناس يومي الجمعة والأحد مرتدياً زياً يفصح عن بركته وتقواه وكان يتدخل ليمنع وقوع الأثم فيتلقى الشتائم والركلات من قبل الناس، وحينها يجر خيبته ويعود الى الكنيسة التي كان يطمح ان يكون شماساَ فيها، وبذلك تكتمل صورة جزئية من الشخصية التي كان للمفكر فيليب هامون مجالاً واسعاً في ايضاح سماتها فهو يقول بعد أن جمع وطور ما جاء به سابقوه لينطلق بفكرة إن الشخصية الروائية هي دليل كالدليل اللساني، لها وجهان دال ومدلول وتكون الشخصية بمثابة دال من حيث إنها تتخذ عدة اسماء أو صفات تلخص هويتها، أما الشخصية كمدلول فهي مجموع ما يقال عنها بواسطة جمل متفرقة في النص أو بواسطة تصريحاتها وأقوالها وسلوكها وهكذا فإن صورتها لا تكتمل إلا عندما يكون النص الحكائي قد بلغ نهايته ولم يعد هناك شيء يقال في الموضوع (1) .
واعتمادا على نظرة فيليب هامون فيمكننا استكمال صورة الشخصية بطرح ومناقشة مكوناتها ومتبنياتها الفكرية؛ ذلك إن شخصية جَجّو ارتبطت ارتباطا روحيا بشخصية ذات مرجعية تاريخية ودينية وهي شخصية القديسة بربارة وخادمتها يوليانا، وما هو واضح أن شخصية يوليانا قد استدعاها المؤلف من الذاكرة الجمعية المسيحية وجعل اسم الرواية يتمثلها لتعلق جَجّو بها فقد كان يقبِّل رخامة قبرها بشكل يومي ايماناً منه من أنه يحبها لذاتها وهي لم تأخذ حقها مثل القديسة بربارة التي عثروا على عظمة لها، هذا غير اعتقاده انه يجب أن يحب بربارة دون أن يكون حبه مرتبطاً برجاء شفائه الذي يتوقع حصوله بمعونة وبركة القديسة بربارة وعبر الوصول لكل تلك المفاهيم تبرز لنا الحوارية التي عن طريقها يتكشف وعيا يستعمله الروائي لنقد الأيديولوجيا المضمرة، تلك التي تخص مثلث الرحمة والابرشية وارتباطهم بالكنيسة واهمالهم لكل جهود القس يوسف لكي يأخذ جَجّو حقه بعد أن تبنى مهمة اصلاح الناس ومحاربة الشر.
طبع الخوف شخصية جَجّو، الأمر الذي جعله يحذر من أي تطور يلّوح في أفق بلدة كرمليس وهذا يتضح عندما يقوم ابلحد بافتتاح كازينو في البلدة ويتنبه جَجّو الى انصراف الشباب إليها وتوقهم الى الملذات وابتعادهم عن انغلاقهم المعهود، ولكن هذا الخوف استثمره الروائي وهو يطرح فكرته من إن الرفض لجَجّو من قبل الناس كانت تناقضه مكانته في اذهانهم بما يبثه من طاقة روحية مؤداها تنشئته الدينية وايمانه، فيقوم ابلحد باجلاسه في مكانٍ متميز في الكازينو وهو يرتدي زي الوعظ كي يراه الجميع فتشيع فكرة تقبل وجود الكازينو في البلدة من قبل الكنيسة، والروائي بعد ذلك لا يتوانى عن الافصاح عن فشل جَجّو في مهمة الاصلاح على الرغم مما يتمتع به من تأثير على الناس؛ ذلك ان اهل البلدة كانوا يتصفون بالبساطة وعدم ادراكهم لمصالحهم ولذلك عرض الراوي شخصيات الرواية بطرح سلوكياتها كما هي ولم يغير ايديولوجياتها ولم يرهقنا بالباسها اثوابا فضفاضة عليها قد تكون لا علاقة لها بما موجود في تصوراتنا رغم اختلاف البيئات .
جَجّو محباً بطريقة افلاطونية
إن اسلوب المعالجة الفنية التي اختارها الروائي جعل من التجربة السردية مختلفة ومتميزة ليس فقط على مستوى الصياغة الأدبية، بل على مستوى بناء الشخصيات والعلاقات في زمن متسلسل ومكانِ محدد، وفيما يخص جَجّو فالامر يتعلق بحقيبة مليئة بطباع وطريقة حياة وسمات جسمانية تتناسق مع ذلك التاريخ الشخصي الذي يشكل كاريزما وتجربة حياة تمنح متبنيها القدرة على ان يكون مختلفا ومثيرا ويمتلك غرابة ويزرع تشويقا، فهو على الرغم من إعاقته وبلاهته كان يحمل فكرا ويحاجج معتقدا وبصفاته تلك تملّك قلب ابنة خالته شمونيا التي خذلها بزواجه من ابنة ابلحد وظلت بعد ذلك ماثلة في وجدانه ويراها شاخصة في حياته مع زوجته، فقد كان يشعر بالذنب انه لم يكن وفيا معها بعد ان انصاع لاستغفاله من قبل ابلحد بالاتفاق مع والدته، وبوجود شمونيا هنا رغم ابتعادها واقعيا عن جَجّو استطاع الروائي استنطاق تلك التجاذبات العاطفية التي كانت تشبه الى حدِ ما ذلك الخدر الوجداني الذي تهبه التراتيل لجَجّو وهو يشق حلقة بالغناء من اجل مرضاة الرب.
إن حب جَجّو ليوليانا التي قدمها الروائي محاكيا شخصية تاريخية لم تعش في زمن الشخصية التي نحن بصدد الحديث عنها، بل نقلها الى زمن السرد الذي لم تعشه قد اسس للطابع العجائبي مكاناً في الرواية وجعل الأحداث تخرق المألوف ومثل هذا الجمع بين الأزمنة القديمة ـ على اختلاف ما بينها من تتابع وافتراق ـ يمنح القارئ فيما يذهب إليه تودوروف(2) ترددا في تصديق طرح آلية اشتغال الشخصية داخل النص، ولكن في هذه النقطة يتدخل عامل التخيل الذي استثمره الروائي ليلعب دورا هاما في بناء سردية تختلف عن تلك الشخصية المرجعية وتظهر الحوارية التي ترتكن الى قوة حضور الشخصية الكارزمية الواقعية التي تتبنى ذلك التخيل وهي هنا شخصية جَجّو حين يلتقي يوليانا وهو نائما بجوار زوجته ويتم الحوار بالشكل الآتي:
ـ هل انتِ زعلانة؟
قالت:
ـ وانت تنظف رخامة قبري كنت تلصق جبينك بحجري، فأتحرك أنا باتجاهك وأضع رأسي على رأسك.
قال:
ـ ولكن هذا ليس قبرك. لا عظمة لكِ فيه.
ـ نكون حيث نشتاق، لا حيث نُدفن.
سألها:
ـ هل انتِ قديسة أم عاشقة؟
ردت:
ـ لا فرق.
قال:
ـ أنا جَجّو اللقلق، والواعظ المجنون.
ـ انتَ جَجّو الصادق.
سألها:
ـ ما قيمة هذا؟
قالت:
ـ الصادق ينال الحب.
(ص96ـ 97 من الرواية).
إن اعتماد الشخصيات المتخيلة يمثل عاملاً مسانداً للشخصية الواقعية التي تبنت الفعل العجائبي عن طريق التحول، اي إنها حولت مضمرات لاشعورها تجاه من تحب واخرجته من حالة الموت الى حالة الحياة، وهي بذلك كانت تستقي عالمها الذي تتمناه بلذة تخيلها وبهذا اصبح الحب لديها لا يخرج عن إطار التخيل، ومثل هذه الشخصيات تكون مرهقة للكاتب بشكل عام لأنها تدخل العمل وهي تحمل جعبة أردية جاهزة للتخيل ولا يمكن ابعادها عنها او اقتراح أردية بديلة لا علاقة لها بطاقة تأملاتها التي تتلبسها، وغالبا ما تكون من المتانة والثقة بالنفس ما يجعلها تقود الكاتب الى مصيرها هي مثلما حُسم مصير الشخصية التاريخية التي استدعتها طاقة التخيل تلك وما يدعم كلامنا هذا قول لجَجّو " منذ أن قتلوها لا تتلقى غير الشموع والابتهالات الطامعة. حين آمنت بالمسيح كانت امرأة لا قديسة .. النور هو ثوب الله، أما الُقبلة فهي علامة الحب. ص65 من الرواية .
الهوامش
1ـ ينظر: حميد الحميداوي : بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت ط1، 1991، ص15.
2ـ ينظر: فيصل الدراج، الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت لبنان، ط1، 2004، ص267.
|