الحديث عن آفاق الثقافة الإسلامية باعتبارها تتأسس على ركائز ثابتة من الذات الإنسانية، والفطرة التي فطرَ اللهُ تعالى الناس عليها، والقيم الإيجابية المستمدة وحيها من السماء، وعوامل عديدة ساهمت في بلورتها كمفهوم تعرّض لجملة من التهديدات على مرّ العصور، وذلك لتعدد المذاهب والرؤى في أفق المنظور الحقيقي لروح الإسلام وفلسفته التي وإلى الآن الخلاف مستمر في تحديد هويتها، ومساراتها الصحيحة. ورغم خصوصية الثقافة الإسلامية لكنها غير متقوقعة على نفسها، فهي في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات الأخر، شريطة أن لا يعود ذلك الإحترام بالوبال عليها، بوساطة الذوبان الكلي فيها بحجة الإنفتاح مع الآخر...
وقد أثبت الإسلامُ عمليا آفاق ذلك الإنفتاح والتعايش، حين فتح المسلمون بلادا مختلفة، فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة، واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية... وبالمقابل أدت بعدها عملية (علمنة) مفهوم الثقافة، بنقل المضمون والمحتوى الغربي، وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين، وفك الارتباط بينهما، والذي كان مبنيا على أسس عقائدية لا تنفك عن العبادات، وما تنتجه من سمو أخلاقي وقيمي يطفو على سطح السلوكيات العامة، لمجتمع ينشد الفضيلة والقرب الإلهي... حتى لم يعد هناك تعريف يلزم المثقف الإسلامي، وهو يخوض في فضاءات لاحصر لها من التنوع، وعاد إلى التعريف العام؛ وهو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة، ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذّر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية، ووضع المثقف كرمز تنويري بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، يُنظر للأول - أي المثقف - بأنه هو الذي ينظر للمستقبل، ويتابع متغيرات الواقع، ويحمل رسالة النهضة، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدو إيجابية، ونعت الفكر الديني بالعكس. وهو مفهوم خاطئ يقع في حبائله الكثير من المتأثرين بتلك الثقافات الغربية...
نحن نرى أن الفقيه كمثال للتكامل الفكري الديني منه والأخلاقي والعقائدي، غير خارج عن دائرة الضلوع بعملية التغيير، ومراقبة ما يطرأ على الساحة الإسلامية والعالمية، إنطلاقا من المسؤولية الدينية المفروضة كواجب إلهي، في قيادة المجتمعات البشرية إلى حيث الإرتباط بالخالق الواحد وتعاليمه السمحاء، وعدم الخروج من دائرته إلى حيث الهلاك والخسران... وهنا يكمن دور المثقف الإسلامي تارة في الأخذ من الفقيه تلك التوجهات الفكرية الإسلامية العامة، وطرحها في قبالة ما مطروح بصيغ وأسلوب ولغة تلائمه، حتى لانكون بمعزل عن السرب الإنساني، إذا أخذنا بعين الواقع أن لغة الفقيه الإسلامي قد لا تكون مفهومة، وصعبة التفسير، وفيها وجوه متعددة من التأويل.
وفي الجانب الآخر يقرّب المثقف الإسلامي للفقيه حقيقة ما يجري وما يدور في ساحة الصراعات الفكرية المتربصة بالفكر الإسلامي لمحاربته وتفريغه من محتواه الأصيل، بطريقة تختلف عما يطرحه الإنسان البسيط، باعتبار ولوج المثقف دائرة الحوار أولا بأول... وما نراه واضحا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم تجاوز الدين ونعته بالخرافة!!
أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها، وعبر التاريخ حمل لواء الثقافة فقهاء الأمة، وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحرير المفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام قرينة التنوير الإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي لفكرة الإله المطلق.
|