الهلال الخصيب معروف للجميع ـ ارض الدفء والكلأ والماء الرقراق. تهاوت إلى تلك الربوع، موجات من الرعي والرعاة، وطالبي الغنى والثروة والاستقرار والصيت. فتلاحقت الحضارات، وانبثقت الأفكار، وعلت سواعد للبناء، واندحرت طوائف وقبائل. كلها في أرض النماء والماء. أما نصيب وادي الرافدين من صيت الغنى والخير والبركة، فيكفي أن الاسم الذي أصبح على كل لسان من أقصى عرب الجزيرة إلى تخوم الجبال البعيدة بأنها: (ارض السواد) لكثرة الأشجار، والزرع، والعشب، فتتراءى من بعيد باللون الأسود، وهذا معروف للجميع...
هناك من يعرّف العراق؛ بأنه الأرض التي تكثر فيها العروق، أو تتشابك في أرضه. وهناك من يرى أن التسمية جاءت من (العراك) فأفواج القبائل كانت تدور بينها المعارك، للاستحواذ على المناطق الأكثر خصبا للرعي، والأقرب توفرا للماء، فهي ارض (العراق).
يا صاحبي إقرأ معي ما يقوله الخطيب البغدادي، عندما يصف الحالة الاجتماعية والاقتصادية لأرض السواد في زمن الدولة العباسية، وبالتحديد في زمن الرشيد، فيقول: إن نفوس وادي، كانت بحدود 30مليون نسمة. وكان يصدّر الغلات الكثيرة الفائضة عن الحاجة، ومنها الحنطة والشعير والرز والعدس والسمسم والتمور...الخ
لا اريد أن يستغرب احد من الرواية، فهناك الشعب الصيني أكثر من مليار ونصف، وهو يصدِّر للعالم كل شيء؛ مما يؤكل أو يلبس. فالاستغلال الأمثل للأرض من حيث الزراعة والري والبزل، والاستصلاح المستمر للأرض، والاكتفاء الذاتي من هبة الله للإنسان. وغيرها من العوامل التي جعلت أرض الرافدين أرض النماء والخير للقاصي قبل الداني.
ما حدث يا صاحبي بعد ظهور كنز النفط ؟
لقد وهب الله جل وعلا لنا نعمة إضافية، ليصبح أهل هذه البقعة، شاكرين لأنعم الله قولا وعملا... ولكن الذي حدث هو العكس.
فقد اعتمد إنسان هذه الأرض، على الثروة الجديدة، وتماهلوا في رعاية أمهم، ونكثوا ما عاهدوا الله عليه. إذ جعلهم الله خلفاء له في الأرض، لتعميرها وإبقاء نضارتها، وترسيخ عقيدة التوحيد، لتشيع المحبة والسلم والسلام.
على من تقع المسؤولية؟
أرض السواد تحوّلت إلى بلد الاستيراد، هل غناها يمنعها من اعمار الأرض، أم غضب السماء اجدب الأرض، وحوّلها قاعا صفصفا؟ أم تقاعس الفلاحين والمزارعين، وامتلاء جيوبهم، حملهم على العزوف عن المحراث والمسحاة والزرع والحصاد؟ أم الدولة لا ترعى الأرض ومن يزرعها، لا تشجيعا ولا ريا ولا مبيدا ولا سمادا ولا ولا ولا ولا... وأصبح مثلنا مثل (تنبل أبو رطبة)؟!! الاستيراد هو الحل لأزماتنا، ابتداء من المشتقات النفطية، إلى جميع الفواكه والخضار، وكأن أرضنا والعياذ بالله تحولت إلى ارض في الصومال أو أثيوبيا. وقد أصابها القحط، وكأنما انتقلنا إلى قارة أخرى أو أصابنا طي الأرض.
أيها العقلاء المسؤولون عن أرض السواد أقول لكم: ما مصير هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، لو أصابت العالم حرب عالمية، وهو على ما هو عليه، من اعتماد على الاستيراد ؟ ماذا لو جفّ البترول؟ أليس هذا محتملا ؟
عفوا واعتذارا للمبالغة... ما مصير العراقيين لو التهبت النيران في الخليج العربي، لا داخل ولا خارج، بسبب الحروب المفاجئة المتوقعة؟
لا يسعني إلا أن اردد قول شاعرنا المرحوم الجواهري:ـ
نامي جياع الشعب نامي *** حرستك آلهة الطعام
ولكن هذه المرة لا ينام، وإنما هيجان له أول وليس له آخر...
ربنا افرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا ؟
|