• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : نور وظلام .
                          • الكاتب : منتهى محسن .

نور وظلام

في مكان مظلم حالك السواد قضى سنين عمره متنقلا من سجن لأخر مجبرا مكرها، إلا أن وجهه الدري صار شعاع النور الذي يملأ أرجاء المكان وهو بين قيام وقعود، لم يكن يريد من الدنيا شيئا ولم يفكر بها على إنها دار مقام بل كان يقول: مثل الدنيا مثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله.(1)
على متكئات وحرير وفرش اعتاد الجلوس ينتظر أوامره  خدامه وعبيده، ينعم بالحياة على بهرجها وزخرفها تفتنه الجواري الناعسات وهن يتراقصن أمامه في مجالس اللهو والفجور، وتشده الدنيا بوصال السحر حتى يترنح ثملا من شدة التعلق والهوى .
لم يترك التسبيح والتهليل إناء الليل وأطراف الحياة في سجود وقعود وقد شاركته جدران طامورته همهمات دعائه ونفحات أنفاسه المؤمنة التي ملأت أرجاء المكان مسك وعنبر، وانتشر شذى أحرف دعائه طيبا وبلسم.
لم يبارح كرسيه المرصع كان ينظر إليه مليا يخاف عليه ومنه ، عليه خوفا من أن يستحوذه مناوئيه الذين يفوقوه بالخلق والدين والنسب الشريف, ومنه ألا يصل شغفه وولعه به إلى فقدان رقبته وإراقة دمه ، فضل بين هذا وذاك يعيش لحظات ممزوجة بالخوف والخبث والترقب.
نحل جسده  الشريف، ولم يكن زاده سوى خبز ولبن ومع ذلك كان كثيرا ما ينسى طعامه  في لحظات ذوبانه مع بارئه، ولم يكن في تلك الطامورة  ليدرك ليله من نهاره من شدة الظلمة التي هو فيها فكان يقول لسجانه اخبرني متى ما وجبت الصلاة وكان ذلك همه الدائم وشغله المستمر.
على مائدة طعام الملوك تتنوع المأكولات وتزيد عن الحاجة المطلوبة، تقدم الصواني المليئة باللحوم وتنتشر رائحة الشواء في الجوار ليتلاقها الناس رغم المَخْمَصَة التي يشعرون بها، ناهيك عن الفواكه الطازجة وصحون الحلوى التي يشتهيا جلالة السلطان ، ولا باس ان ترمى بقايا الطعام على قارعة الطريق بعد ان يتناول منها الملك ملعقة واحدة ، يتذوق جلالته لقيمة واحدة  بملعقة الذهب بينما يتضور الشعب من لظى الجوع والقحط .
داوم على عبادته وشكر بارئه ، تاركا الدنيا وما فيها من ملذات فأساءهم ذلك ففكروا بغوايته وأرسلوا له جارية حصيفة لها جمال ووضاءة ، فردها قائلا  :" بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها" (2)
وذهل خادم الملك لما رآها بعد مدة ساجدة لربها لا ترفع رأسها وهي تقول : "قدوس سبحانك سبحانك" .
هكذا يمضي كلا على شاكلته ، يلحف سجله بالباقيات الصالحات او يثخنه بالذنوب والمعصيات ، ويبقى التاريخ شاهدا وحاكما على الصلاح او الفساد ويبقى الذكر الحسن والسيرة الحميدة عنوان صحيفة المؤمن ورأس نجاته.
وهاهي مدينة الكاظمية تزهو بأنوار منائر وقبب الجوادين عليهما السلام وصارت بقاعهما جنة الأرض تؤم الملأ وتجمع الوافدين تحت خيمة الهدى والإيمان والنهج القويم، فأين يا ترى صار مثوى المتجبرين؟ وأين أضحت أجسادهم التي اندثرت عفنا بعدما أكلها الدود واندرست في غياهب أهل الظلم والجور ؟!
(1)  تحف العقول ص303
    (2) في مناقب آل أبي طالب : 3 / 415




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=152882
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 03 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12