تنشط في مختلف أرجاء المعمورة مختلف أنواع الأنشطة من لقاءات وزيارات وورشات عمل تحت مختلف التّسميات كحوار الأديان وحوار الحضارات والطّاولة المستديرة وما إلى ذلك.. كلّها تصرّح وتنادي بأهمّية اللّقاء مع الآخر من أجل التّعرّف على الآخر وفهمه للتأثير على الجوّ العالمي العام إيجابياً بما يقلّل من سوء الفهم وسوء الظّنّ والتّباعد والصّراعات. وقد كتب كثيرون في ذلك قديماً وحديثاً، ولذا لا جديد في هذا المقال سوى اعتماد المنهج القرآني على قاعدة "وذكّر"لا سيّما وأنّ العالَم اليوم يشخص إلى عاصمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) النّجف الأشرف، ويتطلّع إلى اللّقاء التّأريخي البابوي-المرجعي في سابقة تأريخيّة وفي ظرف زمني قاسٍ بأمسّ الحاجة لتدخّل الزّعامات الرّوحية في الإصلاح العالمي مقدمة ليوم الخلاص.
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً
فطريّاً، الإنسان يأنس بأخيه الإنسان.
تأريخيّاً، لم يعش إنسان لوحده قطّ بل كان يقترب من أخيه الإنسان بحكم أكثر من ضرورة وحاجة وإن كان ما يفرّق بين المرء وأخيه من طمع وجشع واستعداء وكراهية وقتال وحروب وغير ذلك من أمور لا زالت قائمة ومتصدّرة المشهد البشري بعد كلّ هذا التألق الذهني والتقدم المعرفي الذي يشهده عالم اليوم. العزلة قد ترتقي إلى درجة تعذيب للإنسان، ولا أدري لعلها هي السّبب وراء فلسفة السّجون الإنفرادية البغيضة.
الإسلام الذي هو دين الحياة ومنهاج لسعادة الإنسان إنْ أحسنَ فهمه وتطبيقه، ينصّ بكل وضوح على واحدة من أهمّ وظائف الإنسان "التّعارف". قال تعالى في سورة الحجرات، آية ١٣ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾.
ولما كانت خلقة الإنسان تتأثر بمجموعة عوامل مادّية وروحية ونفسية وعقلية وسلوكية، قبل وأثناء وبعد تشكّل نطفته ومضغته وعلقته، لتشكل شخصيته التي ينطلق بها نحو الآخر لاحقاً، فمن الطّبيعي جدّاً بروز ظاهرة التّنوع والاختلاف فيما بين أفراده والّتي نصّت عليها الآية ٢٢ من سورة الرّوم ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ حتّى وإن كان الأصل واحداً وهو آدم (عليه السَّلام). فالاختلافُ ناشئٌ لا محالة ولا زلنا بعد لم ندخل مرحلة الفكر والتّخطيط ورسم طريق المستقبل. وحينئذ يحصل ما يحصل، والشيطان متربّص ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
الإسلام، عالج الموقف مسبقاً كونه حديث الخالق الأعرف بخلقه، والصّانع الأعرف بما يحتاج إليه صنعه، وهو قد أحسن صنعه. فوفّر ضمن "نظامه الأحسن" في هذا الكون الرّحيب دعامات جليلة وواضحة لضمان سلامة الطّريق والكدح ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ فنبّه وأوصى بمبدأ ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ على مختلف مستوياته.
مستويات التعارف:
بمرور عابر وبلمحة بسيطة على طبيعة المجتمعات والعلاقات القائمة فيما بينها، تبدو هناك ثلاث مستويات للتّعارف، هي:
تعارف على مستوى الإنسانية
فالإنسان أخ الإنسان، وينحو نحوه فطريّاً كما ذكرنا. وفي القرآن الكريم نماذج مذكورة منه عبّرت عن علاقة النبي المرسل من قبل الله إلى مجتمع لا يؤمن بالله بعلاقة الإخوة. مثلاً: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾، ﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾، وهكذا ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾، فهو تعارف يستند إلى وحدة الخَلْق البشري. فكلنا أبناء آدم (عليه السَّلام). وعن أمير المؤمنين علي (عليه السَّلام) في عهده لمالك الأشتر حينما ولّاه مصراً جاء "واعلم إنّما النّاس صنفان: إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق" فلا بدّ من رعايته وإعطائه حقه.
تعارف على مستوى العقيدة
وهو يستند إلى ما تعتقد به الأطراف من دين يدينون به. وفي حديثنا عن المسيحية والإسلام، فكلا المسيحيين والمسلمين يؤمنون بالله واليوم الآخر مهما اختُلف في التّفاصيل المؤدّية إلى تشعّب أديان ومذاهب. على سبيل المثال، القرآن الكريم يؤكّد على عمق العلاقة العقديّة والمعرفيّة بين المسلمين وبين المسيحين في أكثر من مورد. فمثلاً قوله تعالى في الآية ٤٦ من سورة العنكبوت ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، أو كما جاء في مطالع سورة الرّوم وقتما كان الرّوم يتعرّضون إلى هزائم من قبل الوثنيّين والملحدين لكن هذه المرّة بشّر القرآن بنصرهم، مدلّاً على جانب آخر من إعجازه، وليبيّن ما سَيَسُرّ أصحابَ النبي (صلَّى الله عليه وآله) به من نَصْر. قال تعالى: الم ﴿١﴾ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٤﴾ بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٥﴾ وَعْدَ اللَّـهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٦﴾. فنسب سبحانه وتعالى نصر الرّوم المسيحيين إلى نفسه بقوله بنصر الله وهو مدعاة لفرح المؤمنين. ومن هنا تجد توجيه ما قاله تعالى في الآية ٨٢ من المائدة ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾. هنا يثبّت الله تعالى ثلاث صفات أساسية لتعزيز التّعارف وتذويب ما يمنع أو يكدر التّعارف، هي: المعرفة (قِسِّيسِينَ)، والرّوحانية (رُهْبَانًا)، والتّواضع (لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
يبدو أنّ كلّ الأديان تدعو إلى المحبّة والسّلام والوئام، لكن يبدو كذلك أنّ أتباع الأديان ممّن ينقصه الكثير من العلم والرّوحانية والتّواضع كانوا سبباً دائماً في لَيّ عنق الدّين والتّسبّب بفتيل النّيران وافتعال الأزمات وثمّ المقاطعة فالتّعدي فالحروب.
تعارف على مستوى الإخوة الإيمانية
وهذا المستوى هو الذي يجمع بين مستوى التعارف الإنساني، والعقيدي، ويتجاوز ليبلغ مستوى الإخوة الإيمانية الخاصة. قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وورد عن النّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال: "المؤمن أخ المؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً" وعن الإمام جعفر الصّادق (عليه السَّلام) "المؤمنون في تبارّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسّهر والحمّى" ونحو ذلك كثير جداً.
أهمّية ودواعي اللّقاء المسيحي الإسلامي
بعبارة أخرى: لماذا اللّقاء؟ هل للمجاملات أم لهدفٍ سامٍ؟
لا يبدو أن لقاءات الزّعماء الرّوحيين وكبار علماء الأديان تقتصر على مجاملات ومصانعات ومضارعات تلاحظ هنا أو هناك في زعامات وقيادات أخرى. إذ لو اقتصر على ذلك فحينها سيفقد اللقاء بريقه ويعرّض بمصداقيتهم وما يتوقّع له من أثر في نفوس الأتباع لا سيّما إذا كانوا أتباع ديانات كبيرة وواسعة على المستوى العالمي، بل وأكثر من ذلك إن كانت تلكم الديانات تواجه مخاطر مشتركة وتحديات مماثلة، كما يشهده المسرح الديني العالمي اليوم بدءً من أقصى الشمال الشرقي حيث البوذية في اليابان وجاراتها، وانتهاء بالجنوب الغربي حيث قمة الولاء والذوبان في المسيحية في الأرجنتين وباراغواي وأروغواي وجاراتهم، وهكذا ما بين هذين الفضائين الرّحبين - أعني مهد الحضارات - حيث يتمركز الإسلام الّذي تؤكد إحصاءات أنّه الأسرع انتشاراً في مختلف أرجاء المعمورة. وهكذا الحال بالنّسبة لأغلب الأديان والمعتقدات الأخرى في مواقع جغرافية أخرى.
ببساطة، عالِم الدِّين، أهمّ شئ يملكه هو الاعتبار. ولا يمكن بحال المجازفة ولو لمرّة واحدة، فإنّها كافية لتسقطه في أعين أتباعه. فلا تذهب بالبعض الظّنون ويذهبوا إلى تحليلات طويلة عريضة وبعيدة عن الواقع، أو بالذّهاب أبعد إذا بتأطيرها بما أكل الدّهر عليه وشرب كنظرية المؤامرات و... إلخ. صدقاً، إنّ القضية أبسط من ذلك بكثير، وإنّ الهدف هو هدف سام فعلاً.
الهدف السامي للّقاء المسيحي الإسلامي ليس وليد الساعة، ولم يأت من مبادرة هنا أو مساعٍ هناك بل قد تجهض وتردّ ما إذا كانت مساعٍ يشمّ معها روائح أهداف جهات أخرى أو مقاصد لا تتبنّاها الرّؤية الدّينية كمسعى يقرّب المؤمنين بالله تعالى من بعضهم البعض، وهو مسعى متجذّر ومتأصّل تأريخيّاً بحكم عوامل مهمّة كالإيمان، والشريعة، والأخلاق.
إيمانياً،
فالمسيحيون والمسلمون كلاهما يؤمنون بالله وبالرسالة وباليوم الآخر عموماً وان اختلفوا في التّفاصيل الّتي يختلف فيها أبناء الدّين الواحد فيولّد مذاهباً. قال تعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾.
وإنّ أهمّ ما يقرّب بين هذين ما انفرد به القرآن الكريم من إسهاب وتفصيل عن النّبي عيسى (عليه السَّلام) وعن أمّه سيد النّساء مريم العذراء (عليها السَّلام)، وهما سنام قدسية المسيحيين على الإطلاق وأساس المسيحية. فالقرآن يصرّح بقوله: ﴿إنّما ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٌ مِّنۡهُ﴾ فهو كلمة الله، وهو روح الله، وإن المتلقّي هي سيدة النساء مريم الّتي قال فيها ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾. وهذا أصل مقوّم المسيحية قديماً وحديثاً على اختلاف مذاهبهم. وبالتّالي فهو ثروة معرفية تشكل أرضية قوية للّقاء والتّعارف والتّقارب، بل وللعمل المشترك ضد التحدّيات المشتركة.
تشريعياً،
فإنّ المسيحية والإسلام كلاهما يدعوان إلى العدل، والإحسان، والقول السّديد، والحوار، والمنافسة على الخيرات، والموعظة لا سيّما مع أهل الكتاب ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾. وبالتّالي فهذا الجانب التشريعي المشترك هو مقوّم آخر وثروة أخرى تشكل أرضية قوية للّقاء والتّعارف والتّقارب، بل وللعمل المشترك ضد التحدّيات المشتركة.
أخلاقياً،
يقول تعالى ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وقد وصف بعض أهل الكتاب مادحاً ومؤكّداً أنّهم الأقرب للمسلمين بقوله تعالى ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ لا يستكبرون أي المتواضعين، حَسِني الخُلُق، وسَيعي الصّدر، لَيِّني الكلمة. وقد ثبت واشتهر وعُرف عن النّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق" وقد وصفه الله تعالى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فكان ترجمان الخُلُق الإلهي على الأرض ليكون لنا "قدوة" ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وقد سبق ذلك كلّه ربّ العزّة قائلاً ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا٨٦﴾ فهل هناك أرضيّة مشتركة أقوى من هذه بعد تؤكّد على أهمّية اللّقاء والتّعارف والتّقارب للعمل المشترك لا سيّما ضد التحدّيات المشتركة؟
***
هذا، مضافاً إلى السيرة العملية وتأريخ من اللقاءات والتعاضد والعمل المشترك منذ صدر الإسلام وحتّى العصر الحاضر دون توقف.
قد لا نكون بحاجة إلى التّذكير بهجرة مسلمي مكّة الأوائل بقيادة جعفر بن أبي طالب إلى الملك المسيحي العادل في الحبشة الّذي أحسن إليهم وآواهم ووقف إلى جانبهم بعد أن استمع إلى جانب من سورة مريم وإلى شكوى الوفد من ظلم قريش وبطشهم.
وهكذا، ما أعقب تلك الهجرة استقبال النبي الأكرم وفداً من مسيحي الحبشة وهو تحت حصار شِعب أبي طالب رغم محاولة قريش منعهم، فوصفهم الله ونعتهم بأحسن ما يكون. يقول تعالى حاكياً قرآنه جوانب من الواقعة في سورة القصص قائلاً: ﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِهِۦ هُم بِهِۦ يُؤۡمِنُونَ وَإِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦٓ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلِهِۦ مُسۡلِمِينَ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾.
ومروراً بالمدينة المنوّرة واستقبال النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وفداً علمائياً موقّراً من نصارى نجران في مسجده المعظّم في المدينة المنورة. ولم يكن لقاء بسيطة إنما كان لقاءً مصيرياً وحماسياً تناوش جوانب لاهوتية حساسة لدى الطرفين وضع الله فيه البركة والخير ليكون درساً ومنهجاً للحوار بين الأديان إلى يوم الدّين، وانتهى إلى تفاهم واتفاقية للعيش المشترك مع أمن واستقرار وحقوق مواطنة وتكافل تامّ.
وهكذا، مرّت المدينة المنورة بتجربة رائدة أخرى تمثلت بمسعى النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بتحرير الوثيقة التأريخية للعيش المشترك، والنادرة، وهي صحيفة المدينة الّتي شكّل المسيحيون جانباً مهماً فيها.
وتستمر المسيرة هكذا عبر العصور وإن انطوت على فترات هدوء وضعف تواصل نتيجة عوامل عديدة أهمّها سياسات الحكّام ومصالحهم البغيضة. إنّ من أهمّ ما يجب استثماره وأخذ البركة والخير فيه من وجود الزعماء الرّوحيين هو التّقرب منهم والاستماع إلى نصائحهم والتمثّل بخُلُقهم والتّعلم من مبادئهم والنّهل من معارفهم فيما إذا أرادوا أن يكونوا حكّاماً صالحين يخلّدهم وأفعالهم ومنجزاتهم التّأريخ والأمم. إنّ إقصاء الزّعماء الرّوحيين أو تحييدهم أو ظلمهم أو استغلال موقعيتهم الدّينية لمصالح سياسية دنيئة إنما هو من أقبح صور الظلم ومن أبشع صور الاستغلال التي يجب أن يبتعد عنها الحاكمون مهما كان لونهم أو رائحتهم أو طعمهم.
منطلقات الحوار المسيحي الإسلامي وآفاق العمل المشترك
على ما يبدو، هناك إجماع على أنّ المسيحية والإسلام هما أكبر ديانتين على وجه المعمورة اليوم بلا شكّ ولا ريب.
وعليه، فإنّ أيّ تقارب يحصل بين أتباع هاتين الدّيانتين سيثمر ويؤدّي إلى مخرجات إيجابية، وهو بدوره سيلقي بظلاله على سائر أتباع الدّيانات الأخرى بالإيجابية تباعاً.
من أهمّ ما يجلب الإنتباه وما يشجّع على استكشاف منطلقات الحوار والعمل المشترك بين الإثنين هو ما إذا كانت هناك رؤية مشتركة لمستقبل واعد. وهذه الرّؤية يبدو جاهزة وواضحة وفي متناول اليد. ألا وهي "الخلاص" وبسط "العدل". هناك أصل جوهري يعتقد به المسيحيون بقوّة وعلى ما يبدو لا يشاركهم أحد فيه إلّا المسلمون. فالمسيحيون يعتقدون بأنّ عيسى هو المسيح الموعود الذي تتحدّث الأناجيل عن قدومه الثّاني بعنوان المخلّص. والتّراث المعرفي الذي ورثه المسلمون عن أئمتهم المعصومين (عليهم السَّلام) وغيرهم يجعل المسلمين يعتقدون بأنّ عيسى هو المسيح الموعود الذي سينزل من السّماء ويعمل مع الإمام المهدي المنتظر من أجل إسدال باب الظّلم والجور وبسط القسط والعدل.
هذه الرّؤية المشتركة القائمة على أساس عَقَدي تفتح لنا آفاقاً لمعرفة منطلقات عديدة ومتنوّعة للحوار والعمل المشترك، منها:
أولاً: منطلق الأرضيّة والقاعدة الرّصينة المؤهّلة لهذه الرّؤية
فهناك ثلاث أركان أساسية ذكرها القرآن لضمان نجاح أيّ حوار في هذا المجال، هي: كلمة سواء، والتودّد والتواضع، وفنّ الأداء حسبما تصرّح النّصوص القرآنية، كقوله تعالى:
- ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾
- ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَاناً وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُون﴾
- ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
لا شكّ ولا ريب قد يتوفّر من المسيحيين والمسلمين عدد يعمل خلاف هذا الإتجاه لجهلٍ أو قلّة وعي أو لتعصبٍ أو لأجندةٍ معينة وما إلى ذلك، وهذا أمر طبيعي ومتوقّع في كلّ زمان ومكان، لكن بوجود أغلبية واضحة وقيادات وزعامات روحيّة عُليا فإنّها ستكون هي الفارضة وهي المسيّرة كلّما أظهرت حكمتها وأجلت عن مقاصدها وعملت على توظيف مهمّتها الرّسولية والتّبليغية. إذن، هذا منطلق قوي وخصب جدير بأن يستثمر على أفضل وجه.
ثانياً: منطلق وحدة ما يؤمن به الطّرفان
ظواهر عديدة، ومنهجيّات متنوّعة، وسلوكيات متعدّدة تتوفّر لدى الجانبين توحي وتشعر الملاحظين والمراقبين بأنّ هناك العديد من المبادئ والمعتقدات والمتبنّيات الفكرية لدى الطّرفين هي في واقعها موحدّة في إطارها العام وتصلح لتكون منطلقاً رصيناً وراسخاً للحوار والعمل والمشترك. على سبيل المثال أساس الإيمان بالله الواحد، وأساس الإيمان بالأنبياء والمرسلين من عند الله، وأساس الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بقواعد الأخلاق المبتنية على الإيمان بالله. هذه كلّها ثروة كبيرة وهائلة تصلح لتكون منطلقاً آخراً لشرعنة آفاق غير محدودة للحوار والعمل المشترك.
ثالثاً: منطلق نظرة الإسلام إلى السّيد المسيح ورسالته.
كون المسيحية هي الأكبر عدداً والأكثر اتّساعاً، فإنّ الكرة في ملعبها هي، وبالتّالي فالنّتيجة الطبيعية هي لا بدّ وأن تكون المسيحيّة هي المحرّكة وهي اللأعب الذي يتحمّل عبأ التّحرك والمبادرة. لكن، ومن الجهة الأخرى، أي المسلمين، فإنّ عقيدتهم القائلة بتكاملية الأديان وأنّ الإسلام مكمّل ومتمّم للمسيحية، فهم يرون أنفسهم في جميع الأحوال معنيين أساساً بالتّحرّك مهما كان الأمر، وذلك لما عرفوه من قرآنهم وما سطّره الله تعالى من نصّ مقدّس يرون المسيح ورسالته بعيون مليئة بالقدسية والتّوقير والتّبجيل. فالمسلمون يعتقدون بأنّ السّيد المسيح هو (روح الله) و(كلمته) التي ألقاها إلى مريم. وأنّ مريم مقدسةٌ عذراءٌ حملت بعيسى روح الله دون أن يمسّها بشر. وأنّ المسيح هو الموعود في العهد القديم وأنّه من أنبياء أولي العزم. وأنّه كان معجزةً في تمام مراحل حياته بدءً من ولادته وانتهاءً برفع الله له إلى السّماء. فالمسلمون يعتقدون بأنّ المسيح لا يزال حياً وأنّه سيظهر من جديد مع الإمام الذي ينتظره المسلمون ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً. كما يعتقد المسلمون بضرورة الإيمان بجميع الأنبياء بدءً من آدم وانتهاء بمحمد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) وأنّ آخرهم قبل الخاتم هو عيسى عليه السَّلام.
العمل المشترك
إنّ منطلقاتٍ مشتركةٍ رصينة ٍكهذه بمقدورها تشكيل قاعدةً صلبة لانطلاق عمل مشترك في اتجاهات شتّى من شأنه المساهمة في إيجاد متغيّرات إيجابية كبيرة. لا داعي لاغماض النّظر والإكتفاء برسم الصُّور الورديّة بينما فعلاً يشهد العالَم أزمة ثقة متبادلة تحصل في هذا الموقع الجغرافية أو ذاك، أو في زاوية هذا القُطر أو ذاك، أو لدى هذه الطائفة أو تلك، نتيجة أسباب عديدة كالجهل بالآخر، وهيمنة ثقافة المقاطعة، وتحرّك صغار القوم وتصدّرهم مسارح دينية وفكرية تفوق أحجامهم، والأخطر من كلّ ذلك ترك الأمور للحكّام والسّلطات والأهواء السّياسية التي كانت على طول الخط مخرّبة أكثر مما هي محايدة.
وإذا ما تمّ تجاوز عقبة أزمة الثّقة، فلا بدّ من تحديد محاور العمل المشترك ووضع استراتيجية محددّة لتفعيل كلّ محور بما يلائمه من حلول. هناك جانب الانتهاكات التي تحصل في بعض البقاع لأقليّات مسلمة أو مسيحية على حدّ سواء لا بدّ من إيجاد حلول لها أينما كانت في بلاد إلحادية ووثنيّة أم بلاد مسيحية أم بلاد إسلامية، لا فرق. فالظّلم لا قرابة له والمظلومون كلّهم أسرة واحدة. هناك جانب من عمليات إقصاء وتحييد تحصل في ساحات علمية وفكرية دولية تستحقّ عناية الزّعامات الرّوحية والتّدخل فيها لتكوّن أجواءً سليمة لأتْباعهم يمارسون فيها حرّية البحث العلمي وحرّية التّعبير وممارسة الحراك الفكري المقارن. هناك مشكلة التّعصّب لدى أطراف من هذا الجانب وذاك على حدّ سواء، لا بدّ وأن تحلّ أزمتها بشكل وآخر. هناك ظاهرة العزوف عن الأديان بشكل مطّرد لا بدّ من وضع آليّات تثقيفية ومواد تعليمية مناسبة لهذا العصر لتشدّ أود المؤمنين بالمسيحية وبالإسلام وتحصّن الضّعفاء من التّأثر بالفساد الفكري والعَقَدي إفراغاً لذمّتها أمام الله تعالى. صحيح وممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ "العاقبة للمتّقين"، وأنّ الأرض "يرثها عباد الله الصاّلحون"، وأنّ دين الله لا يذبل بل له الغلبة وسينتصر بالنّهاية لا محالة، لكنّنا نتحدّث عن واقع حال في هذه البرهة الزّمنية التي تفشّى الفساد فيها لدرجة تكاد ينتهي معها نظام الأسرة والعائلة وتنتهي القيم الإنسانية والأخلاقية القائمة على مبدأ الإيمان. وهنا تتضاعف المسؤولية تجاه القادة الرّوحيين لأنقاذ ما تبقّى من أتباعهم المستضعفين. إنّنا نعيش ظاهرة فراغ المساجد من الشّباب بشكل لم يحدّثنا التّأريخ عنه من ذي قبل، وظاهرة بيع الكنائس وإدبار النّاس عنها بشكل لم نعثر على مثيل له فيما نسمع ونقرأ كما نشهده اليوم. هذه وغيرها من تحدّيات تنتظر من الزّعامات الرّوحية من كلا الجانبين التّحاور والعمل المشترك على مواجهتها بقوّة العلم والحكمة والموعظة الحسنة والمواقف المشرّفة والقرارات المناسبة والإجراءات الملائمة.
إنّ فرصة اللقاء البابوي-المرجعي يمكن أن تكون لحظة تأريخية ملهمة، ومبدأ لعمل مشترك نافع ومثمر، ولشهود عصر إيماني متألّق، مقدّمة لعصر ظهور المصلحَين العظيمَين، بنزول عيسى من السمآء وظهور المهدي من الخفاء، فيقودا العالَم إلى الخلاص والسّلام والأمن والأمان، فللباطل جولة وللحقّ دولة. آمين.
محاضر، باحث، وكاتب في الشّؤون الدّينية
|