بحَسَب الأعراف السياسية والاجتماعية في الماضي والحاضر، في حالة وجود نزاع بين طرفين أو أكثر، تقوم وساطة ما من طرف محايد بالتدخل عن طريق وضع حل وسطي يرضي الجميع، ولكي تنجح هذه الوساطة، لا بد أن يقوم أطراف النزاع بتقديم بعض التنازلات من أحدها للآخر، وهذا ما أُصطلحَ عليه حديثاً بـ(أنصاف الحلول).
فأين مبدأ أنصاف الحلول في حياة وسياسة علي بن أبي طالب.؟
قد يرد في الخاطر, أنه كان على علي بن أبي طالب, وقد جاءه الحُكم أن يتبّع أعراف السياسة المعروفة بين الحاكِم والمحكوم, فيعمل على تقريب الشخصيات الكبيرة من أهل الوجاهة والسمعة والسابقة, فيستدرجهم إلى جانبه بالآمال والمجاملات, ليأنسوا إليه ويرفعوا حِجاب الجفوة بينهم وبينه, ويؤثروه على غيره ممن يُنافسوه في حُكمٍ أو خلافة, أملاً في برّه واطمئناناً إلى حفاوته وودّه، ولكن أغلب الظن كما يقول العقّاد: "إنّ علياً كان سيخسر بهذه السياسة أولئك الذين أحبّوه, ولا يربح بها أولئك الذين أبغضوه." [1]
مما لا شك فيه أنّ المنهج الأخلاقي الذي انتهجه علي بن أبي طالب، لنفسه طيلة حياته, وأثناء فترة حُكمه على وجه الخصوص, يأبى عليه أن يعمل بمبدأ (أنصاف الحلول) حتى وإن كان هذا المبدأ يعود بالمنفعة لصالحه بأيِّ شكلٍ من الأشكال, فربّما يُستشفُّ من هذا المبدأ المساومة والمهادنة, وهذا ما لا يتناسب وكرائم الأخلاق التي جُبِلَ عليها هذا الرجل, بل ربما عدّ العمل بهذا المبدأ نوعاً من الظلم والجور, كما قال لما عُوتب على تسويته بالعطاء بين الناس: "أتأمُرُونِي أن أطلبَ النصرِ بالجَورِ فيمن وُلِّيتُ عَليهِ, واللهِ ما أطُورُ بهِ ما سَمَرَ سميرٌ, وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً, لو كان المالُ لي لَسَوَّيْتُ بينهُم فكيفَ وَإنما المالُ مالُ اللهِ." [2]
يذكر أحد الباحثين خاصية الالتزام الأخلاقي لأمير المؤمنين وعدم التفريط بمبادئه التي لا يحيد عنها: "جاءه المغيرة بن شعبة بعد مبايعته فقال له: إنّ لك حق الطاعة والنصيحة, وأنّ الرأي اليوم تحرز به ما في غد, وأن الضياع اليوم تضيع به ما في غد, أقرِر معاوية على عمله, وأقرِر العُمّال على أعمالهم, حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت .. فأبى وقال: لا أُداهن في ديني, ولا أعطي الدنيّة في أمري, فقال المغيرة: فإن كنت أبيت عليَّ فانزع من شئت واترك معاوية, فإنّ في معاوية جرأة, وهو في أهل الشام يُستمع له, ولك حجة في إثباته، إذ كان عُمر قد ولّاه الشام, فقال علي: لا والله، لا استعمل معاوية يومين.) [3]
هذه الفضيلة التي امتاز بها الإمام علي عن غيره، يلخّصها عميد الأدب العربي طه حسين في أوجز وأدق عبارة: "لم يكن علي يستبيح لنفسه مكراً ولا كيداً ولا دهاءً, كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله, وكان يحتمل الحق مهما تثقل مؤونته, لا يُعطي في غير موضعٍ للعطاء, ولا يشتري الطاعة بالمال, ولا يُحب أن يقيم أمر المسلمين على الرشوة, ولو شاء علي لمكر وكاد, ولكنه آثر دينه وأبى إلا أن يمضي في طريقه إلى مُثله العُليا من الصراحة والحق والإخلاص والنصح لله وللمسلمين, عن رضى واستقامة لا عن كيدٍ والتواء" [4]
هكذا كان علي بن أبي طالب في سيرته أثناء حُكمه, لا يخشى في الحق لوم لائم ولا سخط ساخط ولا عتب معاتب .. وكان في خلافته, أحوج ما يكون لشخص مثل عبدالله بن عباس لقرابته منه ومن رسول الله صلى الله عليه وآله، ولمكانته عند الصحابة خصوصاً وعند المسلمين عموماً, ولكن أمير المؤمنين عندما وجدَ أنّ ابن عباس قد فعل ما يشينه وهو عامله على البصرة, لم يستبطأ من عزله، بل وتوبيخه بأشد لهجة وأقسى عبارة: "أما بعد فقد بلغني عنك أمرٌ إن كنتَ فعلتهُ فقد أسخطتَ ربك وعصيتَ إمامك وأخزيتَ أمانتك, بلغني أنك جرّدت الأرض فأخذتَ ما تحت قدميك وأكلتَ ما تحت يديك, فارفع إليَّ حسابك, واعلم أنَّ حساب الله أعظمُ من حساب الناس" .. ثم تبعه بكلامٍ آخر أشدّ وأقسى من الأول: "أما بعد فإني كنتُ أشركتُك في أمانتي, وجعلتُك شِعاري وبِطانتي, ولم يكن رجلٌ من أهلي أوثق منك في نفسي لمُواساتي ومُوازرتي, وأداء الأمانة إليَّ, فلما رأيتَ الزمان على ابن عمك قد كَلِبَ, والعدوَّ قد حَرِبَ, وأمانة الناس قد خزيتْ, وهذه الأمة قد فَنكَتْ وشغَرَتْ, قَلَبتَ لابن عمك ظهرَ المِجَن, ففارقتهُ مع المُفارقين, وخذلتهُ مع الخاذلين, وخُنتهُ مع الخائنين, فلا ابن عمك آسيتَ, ولا الأمانة أديتَ .. أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب .. اتّقِ الله واردُد إلى هؤلاء القوم أموالهم, فإنك إنْ لَمْ تفعل ثم أمكنني اللهُ منك لأُعذرنَّ إلى الله فيك, ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربتُ به أحداً إلا دخل النار, ووالله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلتَ ما كان لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأُزيحَ الباطلَ من مظلمتِهِما" [5]
فإذا كانت هذه سيرته مع ابن عباس وهو أقرب الناس إليه, وأحوج ما يكون لحاكم من مستشار مثله, فكيف ستكون سيرته مع الآخرين من ولاة أو أمراء أو رعية, إنها سيرة حازمة لا تعرف المداراة ولا المجاراة ولا المحاباة, وإنما هو النصح للمسلمين, والعدل في الرعية وإقامة الحق في الجميع .. "هذه السيرة التي سارها عليّ في عُمّاله هي نفس السيرة التي سارها في الناس, فلم يكن يُطمع الناس في نفسه, ولم يكن يؤنسهم منها, وإنما كان يدنو منهم أشد الدنو ما استقاموا على الطريق وأدّوا الحق, فإن انحرفوا عن الجادة أو التووا ببعض ما يجب عليهم بعُدَ عنهم أشد البُعد, وأجرى فيهم حُكم الله غيرَ مُصطنعٍ هوادةً أو رفقاً." [6]
فيما لخّص أحد الأدباء تلك السيرة العطرة التي تفرّد بها أمير المؤمنين: "إنّ أخلاقه ترفض هذا النوع من الغلب والنصر مهما يكن سريعاً وحاسماً, ولسوف نراه يمارس الصراع كله مع معاوية على هذا النسق من الخُلق الرفيع, لا يتخلَّى عن مُثُله ولا عن دينه مهما تكن العواقب, ولم تكن جبهة خصومه مجتمعة, بأقدر منه ذكاء وفطنة, لكنه رضي الله عنه, رفض دائماً أن يضع الذكاء مكان الإخلاص والورع, ولقد أخبر وكان صادقاً, بأنه إذا انتصر معاوية, فإنه لن ينتصر بمقدرته ولا بشجاعته ولا بذكائه, إنما سينتصر بورع الإمام نفسه, لترفّعه عن الوسائل التي يرفضها دينهُ وخُلقه." [7]
وما ظنك به وقد همَّ أن يقطع يد ابنته وفلذة كبده، عندما رآها تتزين بعقد لؤلؤ في أحد الأعياد, لولا تدخّل خازن بيت المال ابن أبي رافع في اللحظة المناسبة, مبرّأ ساحتها من كل شين أو شبهة, ومدافعاً عنها لأنه هو الذي أعارها هذا العقد من بيت المال ليوم العيد ثم ترجعه بعد ذلك وبضمانته، غَيْرَ أنّ الإمام علي لم يدعْ الحادثة تمر مرور الكرام, دون أن يضع بصمته الأخلاقية المعتادة, فخاطب ابنته لكي يجبر خاطرها: (أكُلّ نساء المسلمين تتزين في العيد بمثل هذا؟)
فإذا أضفنا لذلك موقفه المعروف من أخيه عقيل وقد جاءه يستميحه شيئاً فوق نصيبه من بيت المال، فيقول له الإمام: إذا خرج عطائي فهو لك, فيقول عقيل: وما يبلغ مني عطاؤك, فأسرَّها الإمام في نفسه، ولقنّه درساً بليغاً، ليتعظ غيره بذلك، فأحمى حديدة قربها منه فضجّ عقيل منها، فقال الإمام: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه، أتئن من أذى، ولا أئن من لظى. سنعرف عندها أننا أمام شخصية نادرة الوجود في تاريخ الإنسانية جميعاً، تشرّبت العدل والإنصاف والحق والمبادئ والمُثُل العُليا، ولا تعرف أنصاف الحلول ولا أرباعها!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – عباس محمود العقاد، عبقرية الإمام علي، ص125 ــ بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة – 2017
2 – محمد عبده، شرح نهج البلاغة : ص246 : منشورات مكتبة النهضة – بغداد ( بدون سنة الطبع )
3 ــ عباس محمود العقاد (مرجع سابق) ص91
4 ــ طه حسين، الفتنة الكبرى .. علي وبنوه : ج2 ص111 : دار المعارف – القاهرة (بدون سنة الطبع)
5 ــ شرح نهج البلاغة: ص544 ــ 547 (مرجع سابق)
6 ــ الفتنة الكبرى: ص151 (مرجع سابق)
7 ــ خالد محمد خالد ، في رحاب علي: ص159 ــ نشر دار المعارف – القاهرة (بدون سنة الطبع)
|