صلاح الدين مرازقة بتصرف.
رذاذُ مطرٍ، وإطلالة تبعثُ الكآبة في ناظِريها، قاعةٌ تعمّ أرجائَها هَسهسةُ السُّكون، أرفُفٌ عتيقة من خشب، وكنوزٌ يكسُوها الغبارُ حلَّةً، كانت كتُب، وتحِلُّ خيوطُ النُّورِ عليها ضيوفاً فتزيدُها بريقاً ورونقاً، عرائساً أنتِ ومن ذهب..
كنتُ حينها جالسًا في أحد الُّركون على أريكةٍ غير مريحةٍ أتدأدأُ يُمناً و شِمالاً علَّني أجد راحتي، وأُلقِي بساقاي ممدِّداً رأسي شامخاً بهِ، لألمح سقفاً هشاًّ تعلُوه أسحُبٌ من ضَجر..
كان الأمر غريبا في بدايته، فقد كانت تُعانقني وِحدتي ويسخر مِنِّي ملَلِي، الى ان اِسترقَتْ نظَري عذراءَ ناضِرةً وبتول، تختَلي بنفسها ترفُّعاً فقلت في نفسي: أحِنِّي فتنزُّهكِ سيزول، ثم دنوتُ منها بخفرٍ ، حينها اشتدَّت ألسنةُ لهبِ تلك المدفأة بجنبها، وكأنَّها ردَّت عليَّ تقول: كفاك غطرسةً فلست طَـمــولُ ولما هواك أنت كسول؟؟.. ما أفصحَها ألسُناً وما أبدَع كلماتِها، تجعلُني أجِد شَـــكِيمتي فأرمي بيدي لافحاً مَرامي من شدَّة توهُّج شوقي وكم كانت ناعمةَ الملمسِ، خجولٌ، تغزو عنَانَ أحلامي وتأخذُ بهِ مُبهمًا إلى حيث لا أدري..
" غزِيرة هي المعاني، حين تنبَع من جوفِ كَياني وقلبٍ فيَّاضٍ تُعفِّره الأماني في حوضٍ لابَ من لهفةِ حنيني ووجدانِ.. "
خاطبني القلم..
ثم راح هائمًا يرسم بسماتَه على بُرنُسِ عروسِه، وما أبدعك يا صَولجاني، وإنِّي خشِيتُ أن تاخُذ مقامِي وتحلَّ مكاني، ان تتسنَّم الصَوالةَ بغير حقٍّ ومن دُون عنوانِ..
تجاهلني واِنهمك يمارس الحبَّ على ورقٍ، يترنَّح حيناً ويصبُّ ولهاً في سواقي غريمته حيناً آخر، فتعبَق ريحه، بعد ان اشتعلت فتائل الهيام وارتسمت رياضُ ريحانٍ وجِنان..
كان لحبِّه غروباً أزلياً، مُسْلساً وأبدياً، بهيجَ الألوان متسلِّطاً، متعجرفا لا يكترث لأنوار المساء حوله، وتحت سماء تُثلج قبُلات فضيَّة، عائماً يبعثر عبراتَ شهوته على غدير أبيض فيُسمعني خَواةَ أنِينه..
سِحر لا يفنى، نور خافت يختنق كلّما يرسم لثمة، ليضيء حين يبتعد، فيستجمع أنفاسه المحتكرة، يستنشق شذىً من أحلام، يرسل عبيراً من أوهام. مَلامِس لا تقاوم تجعله يرتِّل أعذب الألحان، ويعزف على أوتار آلته، فتتفتّح الزّنابق ويسجِد له نفرٌ من النّواميس، همْس الجوى، يختال كالفراش مغازلا قطرات النّدى، وذاكَ القلم يمزّق أساطير الأباطرة، صَيَّاح لا يعلو ترانيمه دويّ الرّعود، يكتسي أُبَّهة خالدة، غضوب وأدْكن، تتَّضح مفاتنه وتنعكس على سطح القمر، قانِت، أهْوس يسبح في نهر الحُلم، يستلقِ على ضفّة العرش، يلهث كالفارس المكافح يرمي بزفيره تجاه دِرعه، صهيل ينبعث من هناك، يختلس النَّظر إلى خيوله، يتأهَّب، يُبعد السَّتائر ثم يطِّل من شُرفة حِصنه ليلمحني أداعبها ساخرا، غير مُباليا لمجده، فتَنسجل قوته كالدَّمع، يعدو في أجنحة صَرحه بوجه شاحب، أبصرته يقترب وكان كل مرَّة يدنو فيها منِّي، تتثاقل خُطواته إلى ان سقط على راحة يدي فأحمله كما الرِّيشة البريئة، يُحتضر بين أناملي ويشكوني هموم التَّجبر، راضخا، ساجداً يطلب عفوي.
ذاكَ القلم، كُتبت قصصه في دواوين العشّاق، تتوارثها أجيال الكتَّاب، لا تمحوها خرافات، ولا تحرِّفها معتقدات، ما دامت راسخة في الذكريات..
جفَّ مدادك، آن الأوان لتلفظ أنفاسك الأخيرة، ها أنا ذا احملك، لا أملك وقتا لتأبينك، محتار حقاً، أَ خائن، ناكر لجميلك، أم أني أخشى لحظات الوداع. فعلا لا أجيدها، عذرا لا أحترفها، تُرى هل تعذرني أم أنك لا تملك وقتا لذلك أيضاً..
ليتك تجيب، هل اصرخ، أو اقذف بك بعيدا عن رؤاي.
لا أدري !! غارق في ظلمة من التساؤلات، لا أملك شموعا تمزقها، ولا إجابات. أتوجَّع لوعة الصَّحوة المنتظرة وهكذا دامت حالتي أصارع طعنات القدر، أسير بخطىً ذابلة، سحب تمطر خناجرا من فوقي، أَ هكذا أحزن؟ أم لست ذاك الشخص المعتاد عليه، لا بل آمنت أن وجودك بجنبي حطم أسوار الضَّباب، نجمة ترشدني في غابات التِّيه.
وداعا صديقي..
يُتبع..