• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : جارنا في مدينة الثورة الحلقة الثانية .
                          • الكاتب : جبار ال مهودر .

جارنا في مدينة الثورة الحلقة الثانية

 عشرات العوائل تنتظر تسفيرها في (كراج رقم 1).
شعر كاظم ان البلاء يوشكُ ان يعمهم، والظلام يلفهم في دياجيه الحالكة. 
بعد الإجراءات الروتينية طلبوا منه التوقيع ببصمة إبهامه اليسرى على ورقة لا يعلم ما فيها.
كانت المركبة التي أقلتهم الى الحدود من النوع الذي يستخدمه رجال الشرطة في نقل المجرمين.
 اذْ حُشرت الى جنب عائلة كاظم، عائلة اخرى ساقها القدر الى المصير نفسه، فيما جلس شرطيان ببندقيتيهما خلف الباب الموصد.
انطلقت المركبة عبر قناة الجيش، تحثُ السير باتجاه المنطقة الحدودية في (زرباطية).
نظر جواد الى الديار التي خلفه، فجمع ذهنه وحشدَ ذكرياته، تراءت له مرابع الصبا، وآثار أقدامه على تراب ساحة الدار، استعرض أسماء أصدقائه، وعلى عجل من سرعة المركبة، شاهد طائرة ورقية لطفل علقت بعمود الكهرباء، سقطت دمعةٌ من عينه لم يستطع حبسها.
 
هناك في أبعد نقطة من حدود الوطن، توقفت العجلة ليترجل المبعدون، بعد أربع ساعات من السير المجهد.
 
نظرَ كاظم حوله فلم يجد غير صحراء قفر، ليس فيها ما يستظلون به من حر الشمس وسخونة الأرض، ولا ما يبلّون به ظمأ ريقهم.
 أثّرَ هول الصدمة، وترك ديار الأحبة في قواهم، ولم تَعُد أم كاظم قادرة على حمل نفسها.
ظن ان قبورهم ستكون بطون الحيوانات المفترسة، التي تجوب الصحاري.
حاول ان يجد ما يروي ظمأهم فخاب مسعاه.
توجه صوب العلم العراقي، الذي يعلو المخفر الحدودي خلفه، فلمح من يأمره بالابتعاد، لوح لهم بقطعة قماش كان يتقي بها الشمس، فلم يعبأ له أحد، أراد ان يقترب منهم فصوب اليه الشرطي بندقيته.
أشار لهم بيده نحو أطفاله وأمه العجوز... اقترب منه ضابط المخفر، ونصحه بالابتعاد.
 أخبره ان امه العجوز والأطفال بحاجة الى الماء.
اجابه ضابط المخفر:
 ان الأوامر تفيد بإطلاق النار على كل من يحاول العودة، وان المخفر تحت المراقبة. 
 
سألهُ وهو يحاول ان ينزع الأمل من قلبه: عن الذنب الذي اقترفه؟ 
ثم ناشده متوسلاً ان ينجد الأطفال والمرأة العجوز.
رَقّ قلب الرجل وقال: سوف أتحمل المسؤولية، ولا أدري ما يكون، أومأ الى جواد ان يتبعه الى المخفر.
 
وفي خلوة من عيون من حوله، قدم له وجبة طعام، وفاكهة وملأ له وعاء كبيراً من الماء حمله معه، وأخبره ان يأتي ليلاً خفية عند نفاده.
 
لما عاد جواد الى عائلته، وجد اباه قلقاً لتأخرهِ، وحَسبَ انهم احتجزوه، كما احتجزوا كثيراً من الشباب الذين هجروا عوائلهم.
 
وجد كاظم أنيساً له في رب العائلة التي أصطحبتهم، فتشا معاً في ما يمكن فعله، وانتهيا الى المضي باتجاه المخفر الإيراني، ما دامت بلادهم لفظتهم ولا تريد عودتهم.
حثوا الخطى نحو مصير مجهول، أجهد التعب ام كاظم فلم تعنها قدماها على المشي، اعتلّت صحتها وثقل جسدها، فحملها ولدها على ظهره وانفاسها تخالط انفاسه.
لم يستمر ذلك الزفير طويلاً، فقد أرهقتها الرحلة الطويلة وشاقتها النكبة، وأحست بوطأة المرض تقعدُ بها.
طلبت من ولدها التريث الى حين، أوصته ان يكون قبرها في أرض الوطن، قبل ان تطأ أقدامها الارض الايرانية.
عند هضبة تشرف على طريق السير المتعب ... باتجاه الحدود، ألحد كاظم امه ووضع على قبرها صخرة، اتخذها الجنود موضعاً بين سواتر القتال، ابان الحرب التي اندلعت بعد شهور من تلك السنة.
في الوقت الذي التحقت فيه امُ كاظم بربها، كانت لجنة فرز دور المهجرين تقف عند باب بيتها لتضمه الى دور عقارات الدولة، تمهيداً الى اعلان بيعها في مزايدة علنية ...
 ذات اليوم مساءً، توقفت امام الدار سيارة موحلة، عليها نعش ملفوف بالعلم العراقي، تنتظر من يحمل الابن الأصغر لام كاظم الذي وصل من الجبهة الشرقية.
حمل الجيران النعش في تشييع مهيب، طافوا به الدار، ثم واروه ثرى الأجداد.
 
قيل ان الذين سكنوا بيت ام كاظم، ممن تعاقبوا على شرائه، لم يهنأ أحدٌ منهم بالعيش فيه، فقد سُمعت فيه أصوات أطفال يلعبون، وقال اخرون انهم رأوا أم كاظم تهشُ بعصاها على من يعتدي على احفادها وهم يلعبون.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=145239
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 06 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13