ما أن ودعت امي جارتها حتى سمعت ضجةً وضوضاء في بيت (أم كاظم) الذي لا يبعد كثيراً عن بيتنا، شاهدت مجموعة من رفاق المنظمة الحزبية يحيطون بالدار.
وقف كاظم مشدوهاً، وهم يطلبون منه التوقيع على بلاغ للحضور الى دائرة شهادة الجنسية، مستصحباً معه الاوراق الرسمية للعائلة.
فقد تناهى الى سمعه هذه الايام، تسفير كثير من العوائل عبر الحدود الايرانية بحجة التبعية، فأوجس في نفسه خيفةً، وسارع للالتحاق بالمنظمة الحزبية ليدرأ عن نفسه خطر التسفير.
كان جارنا كاظم اربعينياً، ذو قامة طويلة من الكرد الفيليين وجهه مشرب بالحمرة، اتصف بالجدية وصفاء السريرة، يكتسب معاش عائلته من الأعمال الحرة.
شارك جيرانه أفراحهم واتراحهم، وأمهُ امرأة طاعنة في السن تتوكأ على عصا، ترعى أحفادها الذين لم يتجاوز عمر كبيرهم (جواد) التاسعة، تتبعهم بعيونها وهم يلعبون مع الأطفال.
ذات مرة سمعني حفيدها اردد محادثة باللغة الانكليزية، فظن اني اسخر من لهجته المخلوطة بالكردية، فأسرع الى جدته التي جاءت تشكوني الى والدي.
قال لهم كاظم: لقد عشتُ معكم كثيراً، وأنتم اعرف بهويتي وانتمائي، إلا انهم أحجموا عنه، وأخبروه: انهم ينفذون الأوامر من دون استفسار او تبرير، وشعارهم (الله، الوطن، القائد).
لم يَعُد قادراً على التفكير، ولم يبق في نفسه أمل، نسى طموحه، وقضى ليلته تلك يقلبه القلق، وتتقاذفه الهواجس ...
أخيراً جاء الصباح قبل موعده، مئات العوائل سبقت كاظم الى دائرة شهادة الجنسية، لإعادة النظر وتقرير المصير.
مرّ الوقت بطيئاً مثقلاً بالألم، تسمرت ساعاته كخيولٍ غرست قوائمها في بركة من الوحل ..
سأله ضابط الجنسية عن عنوانه وأمواله المنقولة وغير المنقولة، ثم طلب منه المستمسكات الثبوتية له ولأسرته.
قال كاظم بعفوية صادقة:
مستمسكاتي حبُ الوطن، وقبور أجدادي في النجف الاشرف.. والدم الذي ننزفه على هذه التربة المعجونة بعرق جباهنا!
اطرق ضابط الشرطة برأسه، كأنه خجل من سؤاله.
اخرج كاظم بطاقة الأحوال المدنية، وشهادة الجنسية، وسند ملكية الدار التي يسكنها.
اعتذر منه ضابط الشرطة قائلاُ: ان الأرض وطن الإنسانية جميعاً، وخير الأوطان ما حملك.
اخرج مظروفاً من جارور مكتبه، وضع فيه الأوراق الرسمية للعائلة وكتب عليه
(كاظم كريم رحيمة الجادري)
وأخبره انهم موقوفون بحكم القانون لتسفيرهم الى الحدود.
اذاً وقع المحذور وسمع ما كان خائفاً من ان يسمعه، وبهذه السهولة قررت السلطة اجتثاثه من جذوره، التي تشده الى الارض التي عاش فيها.
طلب ان يمهله الى يوم غدٍ، ليودع أقرباءه وجيرانه، فأذن له على وجل، خوفاً من ان يشي به واش.
عند الصباح حضر رفاق كاظم بسلاحهم على مرأى الجيران، الذين تجمعوا لتوديع جارهم الطيب.
أقامت نساء المحلة عزاءً داخل الدار، وهنّ يحطن بأم كاظم، ويلعنّ السلطة التي تريد إبعادها إلى الحدود.
اما جواد فقد حفر الارض التي كان يلعب عليها مع أصحابه، وأخذ حفنة من ترابها في صرةٍ، حملها معه الى ارض الغربة، وقيل انه نثرهُ في ارض الدار التي تملّكها بعد سنوات في وطنه الجديد، جاعلاً منها مسجداً طهوراً في صلاته.
تعلقت طفلة من الجيران بزميلتها المسفّرة، تريد الذهاب معها، وسط دهشة رجال السلطة، الذين هددوا بتسفيرها معهم، لولا ان امها التي احتضنتها وحمتها من قسوتهم.
تعالت أصوات الاحتجاج والاستنكار من أهالي المحلة، وهم يلوحون بأيديهم من وراء المركبة التي أقلت المسافرين، مخلفةً وراءها غباراً ملأ الفضاء.
|