المقدمة
على الرغم من الأهمية القصوى لمفهوم "الأمن" وشيوع استخدامه، فإنه مفهوم حديث في العلوم السياسية، وقد أدى ذلك إلى اتسامه بالغموض مما أثار عدة مشاكل، فلا يُعَدُّ اصطلاح "الأمن" هو أفضل المصطلحات للتعبير عن الأمن القومي ( الوطني)الوطني للدولة المعاصرة من ناحية، كما لم يتبلور المفهوم لكي يصبح حقلاً علميًّا داخل علم السياسة –منفصلاً عن علوم الإستراتيجية- تطبق عليه قواعد تأسيس النظرية، بدءاً من وضع الفروض وتحديد مناهج البحث الملائمة، واختيار أدوات التحقق العلمي، وقواعد الإثبات والنفي وإمكانية الوصول إلى نظرية عامة، وبالتالي الوصول إلى قانون يحكم ظاهرة "الأمن الوطني".
ويعود استخدام مصطلح "الأمن" إلى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهر تيار من الأدبيات يبحث في كيفية تحقيق الأمن وتلافي الحرب، وكان من نتائجه بروز نظريات الردع والتوازن، ثم أنشئ مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1974م، ومنذ ذلك التاريخ انتشر استخدام مفهوم "الأمن" بمستوياته المختلفة طبقًا لطبيعة الظروف المحلية والإقليمية والدولية.
اي ان الإنسان دائماً ما يبحث عما يشبع حاجاته الغريزية، ليأمن على حياته ومعيشته. ثم يسعى بحثاً عن رفاهيته وحاجات أسرته، ثم يلجأ إلى جماعة تحقق له مزيداً من الرغبات، التي تُشبع آماله وأحلامه، ورفاهية أسرته وحاجات مجتمعه. ويتعاون مع غيره ليحققا معاً مطالبهما في الحياة. وتتسع دائرة المطالب، ويتسع معها السعي نحو الأمان الأكثر ضماناً. وفي كل تلك المراحل، من الفردية إلى الأممية، سعى الإنسان، للحصول على ضروريات الحياة، وضمان رفاهية العيش، وتحقيق أمن المجتمع.
وقد فهم الإنسان منذ القدم، أن أمنه هو أساس أمن أسرته، التي أمنها هو أساس أمن المجتمع والدولة. فتحقيق أدنى درجات الأمن، أساس لتحقيق الدرجات الأعلى، ولا يمكن الحصول على أمن الدرجات العليا، مع فقد درجات الأمن الدنيا، وليس هناك مثالية في الأمن، بل صراع مع قوى أخرى، كالطبيعة، أو المجتمعات، أو الأفراد، لتحقيق الأمن الخاص.
لاحظ المفكرون تلازم الحقائق الجغرافية، مع الأحداث التاريخية. وأنَّ منْ أحسن تفسير واستغلال ما أوحت به العناصر الجغرافية، أمكنه تحقيق أمنه. وقد تحقق ذلك المعتقد عسكرياً في الحروب المتعاقبة، واستفاد الاقتصاديون من تلك الحقيقة، وأوعزوا بها إلى السياسيين، الذين سعوا إلى تملك أكبر قدر من العناصر الجغرافية داخل الإقليم، أو خارجه أحياناً، عندما افتقر الإقليم الوطني، لبعض أو كل العناصر الحيوية. وأدى ذلك إلى تصاعد الصراع وحدته، بين الدول والأمم والتحالفات. وأصبحت العالمية هي الميدان المفضل لتحقيق الأمن. ولكن ظلت القاعدة الأساسية، كما هي: بتحقيق الدرجات الأدنى من الأمن (الأمن الفردي)، يمكن تحقيق الدرجات الأعلى (الأمن الجماعي)، ومن غاب عنه الأساس، سقطت بنايته الأمنية، ولو بعد حين.
الفرق بين الامن الوطني والامن القومي
- من الباحثين من يفرق بين القومي والوطني على اعتبار ان الوطنية ترتبط بالارض في حين تعني القومية ارتباط الفرد بمجموعة من الناس هي الأمة.
- بينما يشير آخرون إلى أن مفهوم الأمن القومي ((ارتبط في أصوله التاريخية بمبدأ القومية السياسية، وجاءت الحرب العالمية الثانية لتعيد تشكيل مفهوم القومية السياسية)) حيث إن دولا مثل الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون تعبيراً عن المفهوم التقليدي للقومية.
- وفي ذات السياق يرى بعض الباحثين ان أمن الامة العربية مجتمعة هو أمن قومي ولكن لوقائع التجزئة انقسم هذا الأمن إلى أمن وطني يرتبط بكيان كل بلد مستقل وأمن قومي يخص مجموع الأمة العربية وهو هنا يفرق بين الأمن القومي والامن الوطني في بعده العربي على أساس الجماعية والوحدة، وإن عد الأمن الوطني لكل بلد عربي جزء من الأمن القومي العربي يتكامل معه وينجح عبره، بتخصيص يرى ان الامن القومي في بعده العربي يتعلق بمجموع الدول العربية، أما الأمن الوطني فهو يتعلق بأمن كل دولة عربية منفردة.
- ولكن أمين هويدي يقدم تصورا مختلفا للموضوع، فهو إذ يقر بواقع نسبة القومي إلى القوم/الجماعة، والوطني إلى الأرض/الوطن، لا يرى فرقاً أو عدم دقة في اطلاق لفظ القومي ما هو من الامة؛ على ما هو وطني من الأرض، ما دام مفهوم الأمن القومي ــ لديه ــ لا يتعلق بعدد الدول التي تشترك فيه، ولكن يتعلق بالمجالات التي يهتم بها.كما أن هناك بعض الباحثين لا يرى فرقا بين المصطلحين ويستعملهما .
- ملاحظة :- الباحث يميل الى الرأي الاخير حيث لا ارى فرقا بين المصطلحين
نطاق الأمن القوميّ The Domain of national security
اتّسع النّطاق الذي يشمله الأمن القومّي منذُ بداية تسعينيات القرن الماضي ليُغطّي العديد من الأنشطة الإنسانية الخاصّة بالدّولة بالإضافة للجوانب العسكرية، وقد قال المفكّر الأمريكي توماس برنت في هذا: (إذا أردت أن تعرفَ سماتَ الأمن القوميّ الجديد فلا تذهب لتتناقش مع كبار الجنرالات ولا مع أبرز خبراء الدّفاع، ولكن اذهب للمناقشة مع خبراء التّكنولوجيا والاتصالات ومنظمة التّجارة العالمية وأساتذة الاقتصاد). يُعزى توزّع نطاق الأمن القومي إلى ازدياد التهديدات التي تواجه الدّولة؛ حيثُ لم يبقَ التّهديد العسكريّ الخارجيّ هو الوحيد الذي يُهدد أمن الدّولة، إنّما ظهرت تهديدات جديدة، كانتشار تجارة المخدّرات العابرة للحدود، والإرهاب الدّولي، وانتشار التلوّث البيئي والفقر، وتفشّي الأوبئة كالإيدز، وازدياد نسب الجريمة المنظّمة.
أولاً: مفهوم الأمن Security concept
على الرغم من حداثة الدراسات في موضوع "الأمن" فإن مفاهيم "الأمن" قد أصبحت محددة وواضحة في فكر وعقل القيادات السياسية والفكرية في الكثير من الدول.. وقد برزت كتابات متعددة في هذا المجال، وشاعت مفاهيم بعينها في إطاره لعل أبرزها "الأمن القومي الأمريكي" و"الأمن الأوروبي" و"الأمن الإسرائيلي" و"الأمن القومي السوفييتي" قبل تفككه.
* وفي مجال التوصل إلى مفهوم متفق عليه "للأمن"، فإنه يجدر بنا التعرف على ذلك المدلول في إطار المدارس الفكرية المعاصرة.
** "فالأمن" من وجهة نظر دائرة المعارف البريطانية يعني "حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة أجنبية".
** ومن وجهة نظر هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يعني أي” تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء ”.
ولعل من أبرز ما كتب عن "الأمن" هو ما أوضحه "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأمريكي الأسبق وأحد مفكري الإستراتيجية البارزين في كتابه "جوهر الأمن".. حيث قال: "إن الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة". واستطرد قائلاً: "إن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل".
وايضا تعريفُ الأمن القوميّ يُعرّف الأمن القوميّ (بالإنجليزية:National Security) بأنّه قدرة الدّولة على تَأمين استمرار أساس قوّتها الدّاخلية والخارجية، والعسكريّة والاقتصاديّة في مُختلف مناحي الحياة لمواجهة الأخطار التي تهدّدها من الدّاخل والخارج، وفي حالة الحرب والسِّلم على حدٍّ سواء.
يُلاحَظُ أنّ مفهوم الأمن القوميّ يعتمدُ على ثلاثةِ أمورٍ فرعية هي:
Note that the concept of national security depends on three sub-matters:
اولا - مفهوم التّحديات The concept of challenges: هي مُتغيّراتٌ أو مشكلاتٌ أو عوائق أو صعوبات تواجه الدّولة، وهي تكون من البيئة الدّوليّة أو الإقليمية أو حتّى المحليّة.
ثانيا - مفهوم المخاطر The concept of risk: هي الإحباطات أو الضّغوط التي تطرأ في ظروف البيئة الدّولية أو الإقليمية أو الدّاخلية للدولة، وتُعيق تنفيذ المصالح الحيوية للدّولة أو التأثير في دورها على الصّعيدين العالمي والإقليمي.
ثالثا - مفهوم التّهديدات The concept of threats: هي قضايا خارجيّة أو داخلية تقفُ في وجه تقدّم الدّولة في تطبيق استراتيجيّاتها القومية، مما يؤثّر بشكلٍ مباشر على مصالحها الحيوية، ومن المُحتمل أن تقودَ إلى خلخلة استقرار الدّولة وأمنها.
تطورات مفهوم الأمن الوطني
The developments of the concept of national security
تأثر مفهوم الأمن الوطني بالتطورات في الأحداث العالمية والإقليمية. وأدى تفاعله معها، إلى تطورات في مفهومه ظهرت في كتابات المحللين والخبراء، الذين رصدوا هذا التطور. فقد تحول مفهوم الأمن الوطني، بعد الحرب العالمية الثانية، من تحديد أهداف عامة للدولة، تكفل لها الاستمرار وتحقيق البقاء، إلى مفهوم أكثر دقة يتضمن شقين:
أ. تكون الدولة آمنة، إذا لم تصل إلى الدرجة التي يكون عليها أن تضحي فيها، بقيمها لتجنب الحرب.
ب. تكون الدولة آمنة، إذا ما أعدت نفسها إعداداً يهيئ لها الانتصار في الحرب، إذا اضطرت إلى مواجهة التحديات والتهديدات.
هذا التطور في المفهوم، يُغَلِّبْ القيم على الأبعاد الأساسية، وهو ما افتقر إليه المفهوم قبل ذلك. فالشق الأول يسمح بحد أدنى للأمن، وهو عدم التعرض إلى قيم الدولة. وقد يكون ذلك التطور انعكاساً لأحداث الحرب، فالدول التي هُزمت عسكرياً، أو انهارت اقتصادياً واجتماعياً، استطاعت البقاء، ثم التماسك، والعودة إلى الحرية والاستقلال، عندما لم تفقد قيمها. فرغم الاحتلال الألماني لفرنسا، إلا أنها خرجت من الحرب دولة مستقلة، واستعادت قوامها كدولة وأمة، دون أن تتنازل عن قيمها. وعلى خلاف ذلك، فإن الدول الأوروبية الشرقية، وقعت تحت الغزو السوفيتي، عقب تحررها من الحكم الألماني النازي، ليفرض عليها السوفيت قيمهم وأيديولوجيتهم الشيوعية، وهو ما عرّض أمنهم للانهيار، لتندثر ثقافاتهم وتراثهم الوطني. وظلت القيم الشيوعية سائدة في تلك الأمم أكثر من خمسين عاماً، وتركت آثاراً عميقة أدت إلى انقسام المجتمع فيما بعد، عندما سقطت الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي نفسه.
وحتى يمكن تجنب المخاطر، التي يتعرض لها الأمن الوطني، عندما تحاول الدولة تجنب الحرب، فإن الاستعداد لخوضها بقوة تؤهل الدولة للانتصار، يصبح شرطاً أساسياً للحصول على مصداقية لمحاولات تجنب الحرب، مع المحافظة على قيم الشعب، وليصبح الشقان مكملان بعضهما بعضاً، "بمحاولة تجنب الحرب حماية لقيم الشعب، مع امتلاك القوة القادرة على الانتصار إذا اضطرت الدولة لخوض الحرب".
تطور المفهوم مرة أخرى، بسبب التعقيدات الدولية والسياسية في نهاية الخمسينيات، التي صاحبت تصاعد الصراع بين المعسكرين، الشرقي الشيوعي، والغربي الديموقراطي. واتسع مفهوم الأمن الوطني ليتجاوز التهديدات العسكرية للأمن الوطني (القومي)، الذي قد تتعرض له الدولة (أو عدة دول متعاونة في مجال الأمن)، إلى القدرة على المواجهة العسكرية عند التعرض لأي شكل من التهديدات غير المباشرة، التي قد تتخذ صوراً عسكرية. وهي مؤثرات خارجية غالباً، وداخلياً أحياناً، قد تفوق في تأثيرها غير المباشر، التهديد العسكري المباشر.
أعطى هذا التطور لمفهوم الأمن الوطني، مرونة أكبر لاستخدام القدرة العسكرية، لحماية الأمن الوطني، عند تعرض أيٍ من أبعاده للتهديد، ليس العسكري فقط، وإن ظل هذا التهديد، أهم الصور الممكن أن توجه لأمن الدولة وتهدده. وقد دعى إلى ذلك التطور، المواجهات التي استخدمها قُطبا النظام العالمي، في الأبعاد غير العسكرية للأمن. فالمعسكر الشرقي الشيوعي، سعى جاهداً لنشر أيديولوجياته، واختراق قيم الدولة الأخرى، وهو ما اعتبره المعسكر الغربي الديموقراطي، تهديداً لأمنه الوطني، يستوجب اتخاذ إجراءات عسكرية لردع المعسكر الآخر. بينما سعى المعسكر الغربي الرأسمالي، إلى الضغط، اقتصادياً على المعسكر الشرقي الاشتراكي، ونجح في أن يتسبب في انهياره اقتصادياً، ليصيب التصدع كل أنحائه، وتنهار قيم الشيوعية، وأيديولوجيتها في كثير من الدول التابعة له سابقاً، بعد 40 عاماً من تطور المفهوم الشيوعي. وقد أكدت تلك الأحداث صحة التطور، بحيث فاق التهديد الاقتصادي، في تأثيره غير المباشر، التهديد العسكري المباشر.
وتفَسر المؤثرات الخارجية (أو الداخلية)، بمزيد من المتاعب، التي تصدّر إلى الدولة المراد اختراق أمنها الوطني، والتي يمكن أن تتخذ أشكالاً عديدة، مثل التمرد العرقي، وتصدير ثقافة مغايرة، والتأثير على الحضارة الوطنية، والعمل على تغيير البنية الاجتماعية، والانقلابات الداخلية، والإرهاب بكل صوره، والتخريب المادي والمعنوي، وغير ذلك من المؤثرات.
وباتجاه مفهوم الأمن الوطني ليحوي كل المؤثرات، أصبح يعني، أيضاً، قدرة الدولة على حماية بنيتها الداخلية من أي تهديدات، بغض النظر عن شكلها أو مصدرها، على الاستمرار والنمو، وتحقيق الأهداف الوطنية.
ركائز وأبعاد ومستويات الأمن
Security pillars, dimensions and levels
على ضوء المفهوم الشامل للأمن، فإنه يعني تهيئة الظروف المناسبة والمناخ المناسب للانطلاق بالإستراتيجية المخططة للتنمية الشاملة، بهدف تأمين الدولة من الداخل والخارج، بما يدفع التهديدات باختلاف أبعادها، بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم.من هنا فإن شمولية الأمن تعني أن له أبعادًا متعددة..
أولها: البُعْد السياسي The political dimension
ثانيًا: البُعْد الاقتصادي The economic dimension
ثالثًا: البُعد الاجتماعي The social dimension
رابعًا: البُعْد المعنوي أو الأيديولوجي The moral or ideological dimension
خامسًا: البُعْد البيئي Environmental dimension
سادسا - البُعد العسكريّ The military dimension
سابعا - البعد الجيوبولوتيكي Geopolitical dimension
|