بسم الله الرحمن الرحيم
(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) (79) يوسف
هذه الآية المباركة ما هي إلا آية ضمن سياق سرد قصة النبي يوسف –عليه السلام- وكلنا شاهد دراما هذه القصة القرآنية الرائعة في مسلسل يوسف الصديق –ع- ..
وقد تضمنت –هذه الآية تحديداً- موضوعين لابد ان نشير اليهما ولو اجمالاً ..
الاول .. وردت كلمة معاذ الله وكلمة اعوذ في اللغة بمعنى كلمة اعتصم وامتنع « » أي معنى اعتصم بالله وامتنع به من هذا الامر والإستعاذة لابد تكون من امر جلل ولذا نقول اعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقد وردت الإستعاذة في المعوذتين وكذلك على لسان مريم –ع- ورد (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) « » والعديد من الآيات مثلاً قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) « » والعديد من الآيات القرآنية وكل استعاذة لابد ان تكون بالله العلي العظيم رغم ورودها بصيغ مختلفة لكنها كلها تشير اليه سبحانه وتعالى ..
وكما قلنا الإستعاذة بالله لابد ان تكون من امرٍ جلل وكيف لا يكون في هذه الآية امراً جلل لأنه اتهام غير المتهم –ولو كان الامر حبكة اريد بها ان تبقي بنيامين في مصر-..
لأنها كانت جوابا للآية التي سبقتها وهي (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
تدل هذه الآيات على ان القوانين تنطبق تماماً مع العقل ولا يمكن ان يُجَرم فرد بجريرة الاخر ولو كان ذا قربى..
هذه القوانين قد لا نلتفت اليها اليوم لكنها كانت غاية في النبل رغم كونهم أمة لا تؤمن بالله , وهم ابعد ما يكونوا ملتزمين بالجانب الشرعي والوصايا الربانية, حيث ان القانون الوضعي والعقلي يمنع تجريم البريء واطلاق المجرم..
ونلاحظ ان هذا المفهوم رغم كون القانون وضعي حينها لكننا نجد ان الشريعة تحث عليه وتبين اهمية الالتزام به وهذا مؤشر مهم على احتمالين:
الاحتمال الاول: هو التمييز والنضوج العقلي للإنسان بحيث وصل بفطرته السليمة وتفكيره المنطقي الى هذه النتيجة التي تطابق الشريعة في اغلب مضامينها.
الاحتمال الثاني: لا ننسى ان الاب الاول للبشرية هو النبي ادم –ع- ولذلك اثرت الوصايا الربانية التي ربى ابنائه عليها او تأثرت البشرية بالأنبياء من بعده فتكون هذه القوانين الوضعية رغم كونها ادرجت من خلال تفكير الانسان الا ان جذورها ترجع للوصايا الربانية والتأثر بالأنبياء –ع- فقد كان لهم دور كبير في انضاج التفكير عند البشرية آنذاك.
هذا الاحتمال هو احتمال وارد جدا نظرا لان بداية انطلاق القوانين قد انطلقت من الاراضي التي كان الانبياء –ع- موجودين فيها, نجد اول قوانين لحضارة كبيرة هي في بلاد الرافدين حيث كان الانبياء الاوائل مثل ادم ونوح وابراهيم ويخبرنا التأريخ بوجود انبياء من بني اسرائيل في السبي البابلي الاول او الثاني –عليهم السلام جميعا- وقوانين مصر تأثرت وارتبطت بأنبياء مثل يعقوب ويوسف -عليهما السلام- ولا ننسى او نتناسى ان الآية المباركة كانت على لسان النبي يوسف –ع- لانهم خاطبوه في الآية التي سبقتها (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وهو مصداق للقانون الالهي في الارض , لكن ما كنت اريد بيانه ان العقلية الانسانية قد ارتقت لفهم اطروحة النبي يوسف –ع- في عدم تجريم غير المذنب, وهذه المعادلة راجحة عقلاً في تجريم غير المجرم في الحضارات القديمة لكننا في القرن العشرين نلاحظ ان الحكومات القمعية كانت تُجرم حتى الدرجة الرابعة للمتهم وان لم يكن مذنباً..
الثاني : معنى الظلم الوارد في الآية المباركة (إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) فالظلم في اللغة هو الجور ومجاوزة الحد واما اصطلاحاً فهو وضع الشيء في غير موضعه المختص به اما بزيادة او بنقصان او بعدول عن وقته او مكانه وقيل هو عبارة عن تعدي عن الحق الى الباطل وهو الجور « »..
وللظلم صور عدة منها:
1. الظلم الموجه للآخرين وهو ابسط انواع الظلم وهو التعدي على حقوق الاخرين وهذا الظلم شائع ومعروف ومثاله في القران الكريم في الآية الكريمة (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) « » أي تعرض للظلم.
2. ظلم الانسان لنفسه بالعمل أي يعمل ليظلم نفسه !! –عجيب هذا الانسان- قال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) « » فهم قاموا بعمل العجل ثم اتخذوه لهم رباً ..!!
ولذلك جاءت الآيات لتحذرنا من ان نعمل على ظلم انفسنا وترك كل عمل يتسبب له بالانحدار بل جاءت هذه الآيات لتهدي الانسان وتجعله يميز العمل الصائب من العمل الخاطئ , ولابد لنا ان نشير الى ان الايمان وحده قد لا يكون كافياً بل على الانسان ان يقرن ايمانه بالعمل الصالح فكانت الصرخات التحذيرية تصدر من الآيات المباركة وخذ مثلاً السورة العصر (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ) اذن العمل الصالح المقترن بالإيمان الصحيح –او كما نعبر عنها بالعقيدة الصحيحة- هو العمل الصائب الذي يتقبله رب العزة والجلال مما يرفع رصيد الحسنات (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) « » ورغم كل ذلك ترى هذا الانسان يسدل الستار على جوهرة العقل ويتصرف بكل غباء وحمق!!.
3. الظلم بالافتراء وهذا النوع كثيراً ما نتعرض له في حياتنا اليومية واقل منه اللغو في الحديث ومثاله القسم دون قصد خلال كلامنا اليومي والكلمة التي تتردد غالباً (والله), هذا طبعاً افتراء على المولى عز وجل لذا على الانسان ان يكون واعياً ومدركاً لكلامه وان لا ينزلق في هكذا منزلقات.
4. الظلم بالكتمان , هذا الظلم قد يظن الفرد انه ليس ظلماً لكن القران الكريم اشار اليه في مواضع عدة لكننا نكتفي بأية واحدة كمثال ,قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) « » ونلاحظ صيغة اظلم تكون للدلالة على شدة الظلم.
ولكي نرجع للآية التي تأملناها نجد ان الظلم قد يشمل اكثر من صورة واحدة من صور الظلم التي تم ملاحظتها وقد تكون هنالك صور اخرى لم ندركها بعد وعسى ان يوفقنا الله للنظر في كتابه الكريم واخذ من عطائه الوافر ما امكن ..
وفي الختام هنالك سؤال يطرح نفسه وهو كم نوع من الظلم نمارسه يومياً وتمارسه مجتمعاتنا, بحق أنفسنا او بحق غيرنا عملاً او افتراءً او اشتباهاً او كتماناً؟
لهذا ورد في عن النبي الاكرم -ص- وعن اهل بيته الطيبين الطاهرين من محاسبة الانسان لنفسه قبل النوم..
وفقنا الله وإياكم لكل خير وصلاح..
|