• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : إغتراب في جسد ثرثرات في الحب .
                          • الكاتب : د . سمير ايوب .

إغتراب في جسد ثرثرات في الحب

ما أنْ أدارَ صديقيَ المُتقاعد ، محرِّكَ سيارته مُتَّجهَيْن إلى مهرجان جرش ، إلتفتَ إليَّ قائلا : تَعلَمْ يا شيخنا أنني لست في الستين ولم أعُدْ في الثلاثين . مع كلِّ نظرةٍ حانيةٍ وأخرى قاسية ، أكبرُ وأصغرُ مرَّاتٍ عِدَّةٍ في اليوم الواحد . هذا التذبذبُ اللزجُ في واقعٍ مُقيَّدٍ ، سَمِجٌ . يُبقي قلبيَ حُرّا مُحتَفِظا بِعُذريَّةٍ لا فائدةً مِنها . على قارعة الطُّرُق ، ما بين عُمْرٍ وعُمْرٍ ، صِرتُ مُنتظراً مَنْ يُمسِك بقلبي ، ليخلِّصَني من شباكِ تِيهٍ يُبقيني مُغترباً في جسدي ، عالقاً في شباك عقلٍ ظنَّانٍ ، وغارقاً في أوردة قلبٍ مفجوع .

وأنا أعلم أنْ لا قيمة للاشياءِ التي قد تاتي متأخرةً ، جئتك لتأخذني إلى مدينةٍ تعرفُ المطرَ وأغنياتَه ، ويفوحُ من شوارعها عبقُ قهوة يمانية . فأنت مِمَّن يتقنون قراءة الدمع في عيونٍ لا تبكي ، خجَلاً من الوقار.

قلتُ مُتَلَهِيا بِحباتِ سبحةٍ تُركيَّةٍ تُداعبها أصابعي : يا صديقي ، عندمـا لا يكون لكَ مكانٌ في قلـب إمرأةٍ توصيك خيرا بنفسك ، فأنتَ بالقطعِ مُشــرَّدٌ واقفٌ بمحاذاة الموت . وإنْ فَشِلتَ في العثور على شريكٍ يخرج للبحث عنك إن ابتعدت ولو قليلا ، أو عجزت عن الدخول في علاقة عاطفية ، فقد صنفتك منظمة الصحة العالمية منذ سنين عديدة ، مُعَوَّقاً نفسيا من ذوي الاحتياجات الخاصة . وعليك ان تخضع لاعادة تأهيل متعدد المساقات ، للتخلص من اعاقتك .

قال مُقهقها : أما زال الحب حقا هنا ، أم أنَّ ما نسمع عنه أو منه ، هو مجرد تهويمات لا أكثر ؟!

قلت بشيء من الاستنكار: رغم كلِّ أشكالِ المجاعاتِ العاطفية التي نشاهدها او نسمع عنها ، فالحبُّ يا صديقي ما زال مُمكنا ، بِلا سَببٍ يأتيَ وبِلا قيود . كلُّ ما يحتاجه ، إرادةٌ تُغلِقُ النوافذَ المُطلةَ على ضجيجِ التَّردُّدِ وإثمِ الظَّن . الحبُّ قدرٌ ، بطُهرِ النوايا تنثالُ طلائعُ سِحرهِ مُتتاليةً كالفجرِ ، فقط لِعاشقٍ صَدَقَ وأتقن .

قال بِتمهُّلٍ لم أفهم سِرَّه : كيف لي أنْ أعرفَ أنَّ الهوى قد بلغ النِّصابَ . وكيفَ تكونُ زكاته ؟

قلتُ مُحاولا احتواءَ مُراوغَتِه : إن جاءَتْكَ مُتَمْتِمَةً لا تُطِلِ النَّظرَ ، فالكثير من التضاريس الظاهرة ما عادت تشبه أصحابها . جُلُّ الناس مغتربون في أجسادهم . ولكن ، إذا ما مسّ الهوى قلبَك وأوْقَدهُ ، قايِضْ جُزءاً منك بِجزءٍ منها . إرْتَبِطا حينَ تَتناغمُ عيونُكما ، وتمارسُ لعبةَ الاحتضانِ ، أو حين يصبحُ وقتُكما أسرع ، ويصيرُ البردُ مِنْ حولِكما أدفء ، والخوفُ مِنْ سِباقاتِ العمر أوجع .

قال مُبتَسما وهو يُشعل لفافته : كيف أبْحِرُ في اللَّهفَةِ بِسلام ؟

قلتُ وقد أدَرتُ وجهيَ إلَيه : تحرَّر منَ القيود التي تُعرقل إبحارك بعيدا عن موانئ الوقار . ألْقِ بنفسكِ في خِضَمِّ الرياح . وأنصت لصوتٍ هادئٍ لا يتسلَّلُ إلاَّ لِلارواحِ المُنْتَبِهَة . وسطَ كلِّ هذا الغَرَقِ ، سيطفوَ أحدُهُم خفيفا بجانبك ، كجذع شجرةٍ يصلحُ طوقاً للنجاة . برفقته تَعِشِ الحياةَ وترى العالم .

قال ضاحكا : وما الذي يُبقي الفتى حيَّاً ؟

قلتُ بِجدية بيِّنَةٍ : لحياةٍ لا تُشبهُ ما اعتدتَ عليه من حياة ، تعلَّمِ الاهتمامَ ، وواصل استكشافَ المُشتركِ معها ، لا بحثا عن ذاتك فيه ، بل لتتقن صنع ذاتك وفق معاييره ومقتضياته ، وأعدْ هيكلةَ ذاتِك لتحسن تذوقه . فمَنْ يدلُف عتباتَ الحبِّ ، يغدو طفلا مُحباً للجنونِ العاقل ، أو يخرج منه مُسِنَّاً لا يُدرك إلى أيِّ منفىً يَتَّجه . وواصل ترتيبَ بيتك ، فالقادمُ شريكٌ مُستحقٌّ لحفاوةٍ أكثر مِما ينال الأتباع .

ونحن في هذه المرحلة من الحوار ، توقف صاحبي أمام بوابة مقبرةٍ على يمينِ طريقنا ، فترجَّلْنا . وبعدَ أن قرأنا الفاتحة على أرواح السابقين ، التفت إليَّ والحَزَن بادٍ في عينيه بِلا دمعٍ ، وقال : تَعْلَمْ أنَّني قد كابدتُ تجربةً وخرجتُ مِنها موجوعاً . رغم هزيمتي ما تُبتُ ولا استغفرت ، وبقيَ القلبُ خصبا .

أدْركْتُ ما يومئ إليه هذا التوقُّف ، فقلتُ وأنا أحملِقُ في عينيه : ثِقْ بأنّ كثرةً من النيام هنا ، أفضلُ ألفَ مرَّةٍ مِن بعضِ الأحياء هناك . بيادرُ الحبِّ خصبة ، فيها النِّعمة وفيها النَّقمة . ولكن يا صديقي لا تندم على حبٍّ أنْضَجك ، ما أسخفَ العشاق إنْ تابوا . بعضُ الاوجاع لا تحتاج حلولا ، بل لكفٍّ تُربِّتُ على كتفك . شيئان كما يقال يستحقان صبرا جميلا لا ينفذ : وطنٌ حنونٌ وشريكٌ يُضيفُ المُتعة .

قال : تَيبَّس كل ما في حدائقي وانطفأت مشاعلُه ، واستوطَنَني وجعٌ أعوجٌ . فلَمْ أعدْ قادراً على العِتاب . ولمْ يَعُدِ التَّغاضي والتَّجاهل قادرا على حماية علاقتنا . ما العملُ ، وقد مات شيءٌ جميلٌ كنتُ أكِنُّهُ لها ، اغتربنا في أجسادٍ لمْ تعُد ترتطمُ إلاّ بحكمِ الواجب ؟

قلتُ حزينا : قيمة الاشياء ليست في ديمومتها ، بل في زخم حدوثها ، فلا تعتقل نفسك في شراكة تشعر فيها بالوحدة . ويخضع ما بينكما لوقار موهوم ، يحوِّله مجرَّد رؤية بصرية تلهو بالغرائز المغتربة . الحبُّ الحيُّ يا صديقي نظام حياة . يُعيد ترتيبَ نفسَه باستمرارٍ، ليتَّسع للتّغاضُب والتَّحكيم والتَّرميم بلا حِياد . إنْ لَمْ تَعُدْ عاشقا لِسُكَّرِها في قهوتك ، ولم يَعُد سمعُك يألفها ولا يُبصرُها قلبُك ، وباتَ وجودها فائضَ قيمةٍ في حياتك ، لا تحرقا كتابَ حياتكما من أجلِ صفحةٍ سوداء فيه . ولا تنزعاها بعنف ، بل اطوياها بلطفٍ غيرَ مُتعجل ، تمرَّدا معا على حصارات الغضب ، تخارجا وتفارقا باحترام وعدل . عيشا خُلُقَ الفراق كما يليقُ بما كان من عِشرة ، فالرحيلُ الأنيقُ وجهٌ من أوجه الحب . وتذكرا أنّ الحبَّ إن عَقَّه قلبٌ أحْرَقَهُ ، وإن تَكلَّمَ بعضُه ، بَصقَ على كَثرةٍ مِنَ الأشباهِ والأدعياء ، فحاذِرا أن يكونَ أيّكما منهم .

الاردن – 5/8/2019

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=136605
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 08 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13