في منتصف عام 90 وأثناء تواجدي في بغداد اقترح بعض الأصدقاء الذهاب لملعب الشعب ومشاهدة مباراة لكرة القدم بين ناديي الزوراء والطلبة، استحسنت الفكرة خصوصاً وانا لم ازُر الملعب سابقاً٬ وفعلاً ذهبنا وجلسنا ننتظر صفّارة الحَكَم اذعانا ببداية المباراة.
كان يجلس بالقرب منا شخصين قد تبادلا اطراف الحديث بصوت مرتفع وبطريقة فوضوية، كان جلّ حديثهم حول حبهم وتعلقهم بنادي الزوراء، لم نأبه كثيراً بما يقولون فقد كان مشهد الملعب وهو مكتظ بالجماهير قد استوقفنا كثيراً.
صَفّر حَكَم المباراة معلناً بداية الشوط الأول، كانت هَجَمات نادي الطلبة تتوالی على الزوراء حتى جاء الهدف الاول للطلبة، عندها سمعت من هذين الشخصين ما لم أسمعه بحياتي!!
بدأ أحدهما بالإساءة والتجاسر على الذات الإلهية بطريقة مقرفة عجيبة، تعدی علی جبار السموات والارض بطريقة تُشعرك بأن هذا الشخص قد لا يكون من سُلالة البشر فاختياره للكلمات المسيئة والسوقية (الكفر) كان خارج حدود التصور والمعقول، يعجز اللسان عن وصفها، يطلقها بصوت يتحدى بها الجميع، ادركت حينها أن غضب الله نازل علينا لا محال.
في هذه الأثناء بدأت هجمة مرتدة لنادي الزوراء، هجمة قد تُسفر عن هدف للزوراء!!! بدأ الشخص نفسه بالدعاء والتضرع الى الله، دعاء حزين مكروب وكلمات مختارات لا تخرج الا من فم عابد عاشق، رأيته وهو يرمق السماء متوسلاً لكن الهدف لم يأتي!!!
وكما توقعت عاد نادي الطلبة الكَرّة بالهجوم وعاد معها ذلك العابد المتوسل الى لغة الكُفر ولكن هذه المرة بتمادٍ وتحدّ وبلغة أشد تقشعر لها الأبدان.
قررت الخروج وترك الملعب ونحن في النصف الساعة الاولى من الشوط الأول، فكانت هذه المرة الأولى والأخيرة لي في ملعب الشعب.
ليسَ من باب التّعميم فالأخيار كُثُر والعراق مصنعٌ للرجال، لكنه دَرْس بليغ ومشهد قد حُفِرَ في الذاكرة، نموذج للأزدواجية المفرطة في الشخصية العراقية، حب وكره، إيمان وكفر، ولاء وعداء، عفة وفساد، بكاء على الأيتام والسير خلف من سرقهم، بيوت من الصفيح وقصور من اموال السحت ووطن جريح، لا تدري من الغالب ومن المغلوب!!
اليوم العراق هو العراق، وأشواط المباراة مازات مستمرة والحَكَم لمّا يُصفّر بعدُ بانتهاء المباراة، والشعب مازال في ملعب الشعب.
اليوم نزور ونبكي بحرقة وألم وغداً وفي نفس المكان نلعب ونرقص دون حياء مُتَحدّين القِيَم ، فَمَن نَحن؟ ولمن ننتمي؟ ضاعت الهوية وضاع المُعتقد، ضاعت المباديء فضاعت معها البوصلة وضاع بعدها الإنسان.
بدأنا نرى الحقّ باطلاً والباطل حقاً، فهل هذا نذيرٌ ببداية النهاية؟
|