خلق الله تعالى الخلق، وأوجد فيه العقل وهو من أفضل نعم الله تعالى على الإنسان أن ميّزه عن باقي أجناس الحيوانات بالعقل، وهو الرسول الباطن لكل إنسان، تلك الجوهرة التي ارتقى بها الإنسان من حضيض الحالة الحيوانية ليصل الى مراتب يطمع بها حتى الملائكة المقربون. بالعقل تتحقق إنسانية الإنسان، وعليه مدار التكليف، من جميل صُنعه تعالى أن جعل الإنسان يبدع إن أراد ذلك، وقد يصيبه الخمول إن هو أراد الخمول وكسل عن المطلوب. يقول بعض العلماء: (إن من قدرات الإنسان ومميزاته هو أنه يتمكن من التوجه والانتباه إلى علمه وجهله، فيعلم بأنه يعلم ويعلم بأنه لايعلم. وأما الحيوانات إن كانت تعلم فهي لاتعلم بأنها تعلم كما أنها حينما تجهل لاتعلم أنها لاتعلم)، فمن الناس من أوصد باب العقل واختار الجهل، وكردّ فعلٍ على ذلك وردت الكثير من الأحاديث والروايات في مدح العقل وذم الجهل، ما دام الإنسان سائراً بهدي العقل السليم فهو إنسان، إن أهمل ذلك فقد رجع إلى مراتب الحيوانية. قسّم العلماء الجهل إلى قسمين: القسم الأول: هو أن يجهل الإنسان شيئاً وهو مطّلع عليه وعالم بجهله وواقف على ذلك ويسمى ( الجهل البسيط)، ولا خطورة في الجهل البسيط لأن الإنسان مادام يعلم بجهله فسوف يسعى لإزالة هذا الجهل، وأما الذي لايعلم بجهله فهو في ظلمة لا نور فيها أصلاً ،كيف يمكنه الخروج من هذه الظلمة؟ القسم الثاني: هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع، أي يتصور الشي المعلوم ويعتقده على غير هيئته، إصرار الجاهل على جهله ويدّعي بأنه عالم، وهذا يسمى (الجهل المركب)، وهذا هو محور حديثنا، فالجاهل من هذا الصنف يجهل شيئاً وهو غير ملتفت إلى أنه جاهل به، بل يعتقد أنه من أهل العلم به، فلا يعلم أنه لايعلم، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنهم عالمون بالحقائق وهم جاهلون فيها بالواقع، وهذا ما ابتلي به بعض الأفراد في مجتمعنا هذا الزمان. كما جاء في قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) يظنون أنهم يفعلون الأفعال الجميلة، (الحسبان )هو الظن وهو ضدّ العلم) ، الوقوع في الجهل المركب هو الظن. وإن من مظاهر تغييب العقل الواضحة هو الجهل المركب، لأن الجهل المركب هو العمل بالوهم بعبارة أخرى، أي يتوهم الإنسان أنه عالم بالشيء والحقيقة خلاف ذلك ، الجهل المركب مانع من قبول الحق والرجوع له، فإن الجاهل بجهله على خلاف ماهو الواقع، أعظم ضلالة وأتم جهالة له من المعترف بجهله، فإنه يعذر وتنفعه النذر والآيات ،إن الجهل المركب يعتبر من الأمراض الخطيرة التي تصيب الإنسان والتي يصعب علاجها، لأن الجاهل من هذا النوع غير مهيأ نفسياً ولافكرياً لتقبّل أنه جاهل، وهذا يأتي من الغرور الذي هو أحد أسباب إصابته بالجهل المركب، والغرور لوحده يُعدّ مرضاً، فمجرد إدراك الشخص بقصوره الفكري يجعله ذا فكر، وأما الجاهل من هذا النوع فتكون في نفسه نزعة الغرور تجعله في نظره هو عالماً وليس جاهلاً. الجهل المركب جمع بين الجهل والاعتقاد وخلط بينهما وبين العجب والهوى والغرور والظن، فإن عجبه بنفسه وغروره يؤدي به إلى التعصُّب وعدم تقبّل الحقيقة، فهو لا يتقبّل فكرة النقاش والدليل العلمي، والمعروف أن قول (لا أعلم) هو نصف العلم. إن الإنسان الذي يعلم أنه لايعلم الشي قد اكتسب نصف العلم، وهو العلم بجهله، والنصف الثاني هو العلم بالشيء المجهول، وذلك ما يستطيع اكتسابه من خلال البحث والدراسة والاستفسار والسؤال، واختيار المصادر الدقيقة للمعلومة. أن سبب تسميته (بالجهل المركب) هو لأنه مركب من جهلين: جهل بالواقع ونفس الأمر، وجهل بذلك الجهل، أي إنه يتوهم كونه عالماً، والحال أنه جاهل. والجهل المركب مميت للقلب ومانع من استكمال الفضائل التي هي سبب السعادات. فالجهل ضد العلم والإنسان بفطرته طالب للكمال رافض للنقص، والعلم كمال وكفى به كمالاً أن يدّعي به من لم يتصف به، والجهل قاتل لذلك الدافع والحافز بداخل الإنسان ليسعى ويرتقي سلم الكمال، لذلك يعتبر الجهل منبعاً وقاسماً لكثير من الأمراض الفكرية والأجتماعية، بل لاتوجد رذيلة ومنقصة إلا والجهل سببها. --
|