سورة البقرة
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ{166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ{167} يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{169} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ{170}
اذا لم يكن جميعنا , فأغلبنا يتخذ لنفسه رموزا من اشخاص يجعل منهم قدوة له , ويفضلهم على غيرهم , وربما يتعصب لهم , ويظن نفسه انه على حق , وغالبا ما تكون مثل هذه الشخصيات المتبعة من المشاهير , كالممثلين والمطربين , فيختار البعض مغنيا او ممثلا , يلهجون بذكره و ذكر اعماله , وتتبعوا كل اخباره , وربما تزينوا كما يتزين , وقلدوه حتى في حركاته وسكناته .
وبدوره , يكون المغني او الممثل مهتما كثيرا بأمر المعجبين به , ويحرص ان يقدم لهم كل ما يزيدهم اعجابا وفخرا به , ويتجنب كل ما من شأنه ان يقلل او يهز عرش حبه وعشقه في قلوبهم .
والبعض الاخر يختار لنفسه حكيما ما او قارئا للقرآن او فقيها او محدثا , فيظهر اعجابه به , وقد يتجاوز الامر حدود الاعجاب , فيصل حد التعصب , والسخرية مما اختاره الغير من رموز وشخصيات , فيتولد الجدل و المشاحنات , حتى تصل الى ما لا يحمد عقباه في بعض الاحيان .
كل ذلك , رهن الحق والحقيقة , فبمجرد ان تنكشف بعض اسرار تلك الشخصية المتبعة , او تفتضح بعمل مشين , حتى يهجرها مريديها , والسبب هو ان اعجابهم لم يكن في محله , بل ان حبهم وتفضيلهم لتلك الشخصية كان ناقصا .
الحب والاعجاب لا ينبغي ان يكون لاجل الصوت الحسن , او المنظر الخارجي , ولا من اجل اللباقة في الكلام , ولا من اجل أي شيء اخر ! .
لو كان الحب والاعجاب بهذه الشخصية او تلك وفقا الى اصول وقواعد معينة , لوجدنا فارقا شاسعا بين ما اخترناه , وبين من تنطبق عليه تلك الاصول , ولكان بأمكاننا تدارك الامر قبل فوات الاوان .
فتشير الاية الكريمة الى اتباع شخصيات غير جديرة ان تتبع , وكأنها تؤكد على ضرورة اتباع الاصول والقواعد السليمة للاختيار , هذا من جهة , ومن جهة اخرى , ان الاية الكريمة تحض الاشخاص المحاطين بالمريدين ان يكونوا اهلا لتحمل المسئولية .
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ{167}
عندما تنكشف الحقائق في وقت ما , يرى التابعون ما كانوا عليه , ويكون على وجهين :
1- ان كانوا قد اتبعوا المفسدين , يتحسرون ويندمون على فعلتهم , ويتمنون ان تكون لهم القدرة على الثأر من الذين اتبعوهم واضلوهم , و اول علامات هذا الثأر هو البراءة منهم .
2- ان كانوا قد اتبعوا المصلحين والمحسنين , فيتنفسون الصعداء , ويشكرون الله على توفيقه لهم بحسن الاختيار .
(( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار ِ ))
توعد الله عز وجل الكافرين والعاصين بالعذاب , فيصفه جل من قائل ( النَّار ) , وقد وصفه عز وجل في اماكن كثيرة في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة , يغلب عليها ( النار – جهنم ... الخ ) .
القرآن الكريم يصف هذا النوع من العذاب بالكليات , ولم يذكر او يفصل الجزئيات , كما وان احدا منا لم يذهب الى جهنم , فيعود ليصفها لنا , سوى الرسول الكريم (ص) , وذلك في ليلة المعراج , وقد فصلها بأسلوب يتناسب مع عقول وثقافة ذلك الزمان , وبعبارة اخرى , ان القرآن الكريم وصف لنا عذاب جهنم بالكليات , وقد شرح الرسول الكريم (ص) ذلك العذاب بعد معراجه , بتفاصيل كثيرة , يرد فيها ذكرا للعقارب والحيات ... الخ .
لكن حب الاستطلاع يدفع الانسان للبحث عن معلومات اكثر , و تفاصيل ادق , شرحا اقرب ما يكون للواقع , لكنه يعجز , ويتعسر عليه فهم كنه ذلك العذاب .
فيتبادر للمتأمل في هذا العذاب الموعود ما يلي :
1- ان جهنم تشير الى مكان كبير جدا , كبيرا بقدر ان يسع كافة المجرمين , {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }ق30 , او هو تعبيرا عن سجن كبير , مترامي الاطراف , كما ويبدوا ان هذا السجن الجهنمي الواسع يحتوي على عددا من الطبقات , ( الدرك الاسفل , الوديان ) , في كل طبقة , زنزانات كثيرة , متنوعة ومختلفة في الشكل والحجم , وكل زنزانة تحتوي على الات تعذيب خاصة , تعتمد على نوع الجريمة .
في كل طبقة نوعا خاصا من العذاب , على ان تكون اسفل الطبقات اشدها عذابا .
يزج زبانية جهنم المجرمين , كل في طبقته , ويضعون كلا في زنزانته , حسب ما كان من جرمه وجريرته .
2- ان ذكر عقارب وحيات جهنم وغيرها , كناية عن آلات تعذيب مؤلمة جدا , ومخيفة في نفس الوقت , تنال من العاصين حسب درجات عصيانهم , فعبّر عنها الرسول (ص) بالعقارب والحيات كي يقرب المعنى لاذهاننا , فمهما تطور عقل الانسان , وتوسعت مداركه يبقى عاجزا عن فهم كنه هذا العذاب , حتى يراه بأم عينيه , وقانا الله شره .
3- النار , كناية عن نوع من مؤلم من العذاب لا يحتمل , الامثال تضرب ولا تقاس , في هذه الدنيا , لا يستطيع احد تحمل امساك جمرة السيجارة لمدة طويلة , حتى يناله الجزع , وتظهر اثارها على جلده , وقد يستمر الالم فترة يوم او يومين , اما الاثر فسيبقى مدة اطول , وربما يبقى مدى الحياة , هذه جمرة صغيرة من جمرات الحياة الدنيا , لا تقاس بشيء من نار وجمرات جهنم , فأقرب ما يقرب وصف نار جهنم لاذهاننا هو كلمة ( النَّار ) .
فمهما تأمل المتأملون , ومهما اتسع علم العلماء , ومهما توسعت مدارك العقل البشري , يبقى وسيبقى عاجزا على ان يدرك كنه وجوهر هذا العذاب الموعود , لانه يندرج في ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{168}
خطاب مباشر منه جل وعلا لكل الناس , الانس والجن , لكل مخلوق عاقل , وبعد الخطاب يأتي البيان , حيث ان كل شيء اباحه الله عز وجل فهو طيب وطاهر , نافع لا ضرر فيه , بل فيه الخير والخير منه وفيه , وكل ما حرمه عز وجل فهو نجس وضار , لا نفع فيه .
لكن الشيطان الرجيم يزين لنا القبيح , فنراه جميلا , ويخلط علينا الاوراق , فتلتبس علينا الامور , فهو عدوا لنا , ولا ينبغي الا ان يكون عدوا .
من هنا يجب ان يفخر المسلمون على كافة الامم , بأنهم يعبدون ربا لا يجيز لهم الا الطيبات , ويرشدهم ويجنبهم اتيان الخبائث , الظاهرية منها والباطنية , ويفضح لهم افعال الشيطان , ويحذرهم منه , ويؤكد لهم ان عدوهم الاول وربما الاخير هو الشيطان الرجيم .
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{169}
اعمال الشيطان الرجيم كثيرة , تتنوع وتختلف حسب الظروف , الزمان والمكان , لكنها جميعا تتمحور في ثلاثة محاور رئيسية ذكرتها الاية الكريمة وهي :
1- يأمر بالسوء .
2- يأمر بالفحشاء .
3- الافتراء على الله .
ما اجمل ايجاز القرآن الكريم , وادق عباراته , فلو عكف الفلاسفة المحنكين والعلماء المتمرسين , على ان يلخصوا افعال واعمال الشيطان الرجيم لعجزوا عن ذلك , ولأغرقتهم التفاصيل , وأبعدتهم عن صلب الموضوع .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ{170}
كلما جاء رسول الى قومه , وابلغهم رسالات ربه , قالوا له (( بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا )) , أي انهم يعلمون ان ما اتى به الرسول (ص) هو الحق , وفيه الخير , لكنهم في صراع وحيرة في امرهم , فأما ان يختاروا ما جاء به الرسول (ص) ويتركوا ما ورثوه عن آباءهم واجدادهم , او يتمسكوا بتراث الاباء والاجداد , فقد تجذر ذلك التراث بما فيه من عادات وتقاليد في نفوسهم , حتى بلغت درجة انهم لا يستطيعون تغيرها او تبديلها , او حتى التفكير في تحسينها وتعديلها .
اقرب مثال على ذلك , نجده في ميراث قوانين العشائر ( السانية ) , فبالرغم من ان تلك العشائر تدين بالاسلام ظاهرا , لكنها تسن لنفسها شرائع بعيدة عنه , وعندما يطلب منهم الاحتكام لشريعة الله والاسلام , سيقولون ( هي السانية ورثناها ابا عن جد , هذا ما وجدنا عليه ابائنا ونحن على خطاهم سائرون ) , رغم انهم يؤمنون ايمانا لا شك فيه ولا ريب , ان ما جاء به الاسلام هو الحق المبين ! . |