رُبما يُحسن الإنسانُ تزيين بعض باطله بحُجج لها صورة البُرهان أو ما يُقارب حدود الإقناع عند المُستمع، وقد ينجحُ في ذلك، ولكن الإنسان بأيّ حالٍ مسؤول أمام الله - تبارك وتعالى - عن الحُجج الموضوعيّة الواقعيّة، لا عمّا يصطنعه ويقدّمه على أنّه حجّة يتعبّد بها بينه وبين الله مهما كان زيفُها، وهنا تتمثل قيمة الصدق القلبيّ، إذ لا يمكن أن يخدعَ أحدٌ ربّه ليقولَ له: (هذا ما توصّلت إليه بيني وبين الله)، في حين أنّ الله مُطّلعٌ على السرائر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصّدور، ومن هنا: ينبغي للإنسان العامل على تهذيب نفسه أن يسدّ منافذَ الشيطان، وأن لا يوسوسَ إليه بالباطل بما يزينه من براهين أو حجج أو أعذار، فإنّها عند ربّ العالمين الذي له الحُجّة البالغة لا تساوي شيئاً، وسرعانَ ما تذوبُ ذوبان الثّلج، وإلَّا فمن يقدرُ على محاججة علّام الغيوب؟ وهل تنفعُ معه الجدالات والصراخ وانتظروا بحثي مولانا فسوف يأتي، وووإلخ.
هذا كلّه لا ينفع، وإنما المنفعةُ في البراءة أمام الله في قصد الحقّ وطلبه، والخلوص في انتقاء البراهين النافذة والحجج الصحيحة، فحينها ربما يغفرُ الله لنا إن زللنا أو أخطأنا، وإلّا فإنّ مجرد سبك العبارات وتنميق الكلمات لتغليف الباطل بلباس الحق لا ينفع في الآخرة، وإنْ نفعَ في الدنيا وخدعَ بعض من لا بصيرة له وعاش مقتاتاً على تكرار المقولات دون وعيّ أو تمحيص.
مما يخطرُ بالبالِ في شأن تزيين الشيطان لبعض الحجج السخيفة، ما رُوي أنّ شَمِر بن ذي الجوشن - قاتلُ سيد الشهداء عليه السلام - كان يقول بعد صلاة الفجر: (اللهم إنّك شريفٌ تحبُّ الشرف، وإنّك تعلمُ أنّي شريفٌ فاغفر لي)، فقيل له: كيف يغفرُ الله لك وقد خرجت إلى ابن رسول الله، فأعنتَ على قتله؟! فأجاب سائلَه: (ويحك، فكيف نصنعُ إنْ أمراؤنا هؤلاء أمرونا فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كُنّا شراً من هذه الحُمُر السَّقاءات).
وهنا ينبغي أن تُلاحظ مدى سخافة جوابه وبُعده عن الحُجيّة المُقنعة، فإنّ مجرد أمر الأمراء الأمويين فيما لو فرضنا صحّة ولايتهم لا يوجب متابعتهم في كل ما يأمرون به، ولا بُدّ من إرجاعه إلى القرآن وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقييمه وفقاً لهما، وهذا واضحٌ لمن كان له أدنى معرفة بهما، وقد تعقّب بعضُ علماء القوم ركاكة تبريره، فقال: (إنّ هذا لعذر قبيح، فإنما الطاعة في المعروف)، فأبان وهنَ جوابه، وأسقطَ حجّته أرضاً.
وبهذا النحو يمكن أن تنجليَ الحقيقة يوم يقوم الأشهاد، ويُحاسَبُ كلُّ إنسانٍ على عبثه بالدّين وإفساده العقائد وتهوينه من أمر الأئمة (عليهم السلام)، وتلاعبه بالمعايير العلميّة المنضبطة والتشويش عليها تحت ذرائع كثيرة ربما لا يبصر جملة منّا سقوطها، ولكنّ الأمر بين يديّ العباد هيّن بل أهون، وإنما شدّة المقام وخشونة المآل تكمن عند الوقوف بين يديّ ربّ العباد، والله من ورائهم محيط.
|