تزدحم ساحة مدرسة قبل اصطفاف طلابها حول علم بلدهم بيوم غائم، في حين كان الطلبة يرتدون ربطات عنق سوداء إلّا الذين جاؤوا متأخرين عن حصّة دراسيّة تمّ فيها الإعلان عن قوانين جديدة.
بعد أن يتّسق الطلبة مثل وحدات الجنود في منطقة عسكرية أثناء الاستعداد، يتمّ رفع العلم وقراءة النشيد الوطني.. يتقدّم مدير المدرسة وسط الساحة التي تحفّر وجهها بالحصى، يلقي كلمته الروتينيّة وهو يرتّب بدلته الرصاصية التي يرتديها دومًا، ثم يدعو بعض الطلبة أمام الجميع؛ لأنّهم اعترضوا على الطريق الذي تتجه إليه مصائرهم في هذه البقعة.. وقفوا قرب العلم، نهرهم المدير وهو يمسك عصا يابسة:
- أيّها المشاغبون.. لِمَ لا تؤدون واجباتكم؟!
كان أحد الطلبة يخفي في داخله الكثير من الكلام، لذا بدأ يزيح عن جوفه القلق ويقول دون كتمان: "حان الوقت حتى أطلق صرختي" مشى وحده، وقف أمام أقرانه؛ يحطّم صمتهم المطبق الذي طالت مدّته:
- أ تسمح ليّ يا مديرنا المحترم؟
يهزّ المدير رأسه بعلامة قبول، يذرع المسافة حوله، ويضرب يده بالعصا.. في حين بدأ الطالب يتحدّث دون خوف: "لقد أردنا كسر رتابة حصّة الفيزياء ليس إلّا، فقد سئمنا من القوانين، المعادلات الرياضية، الرموز.. التي لا تمت للكون بصلة، حتى أستاذ المادة لا يعرف ماهيّتها.. هل تعلم يا مديرنا المحترم؟ نحن جميعًا في دائرة ابتذال للزمن، لإنشتاين، للدهشة، لذا خرجنا نبحث عن متعة الطبيعة، كان خيار عزفنا على الكمان هو المؤنس الوحيد.. لِمَ حطّمتموه؟ أليس موجات صوت النغم تتكون عن طريق عملية احتكاك واهتزاز مع وتر الآلة؟"
يغضب المدير من هذه الجرأة التي حسدها، يريد أن يشنق الطالب فوق عمود العلم، لكن يستمر الآخر بالحديث...
"أمّا من باب الأخلاق، كيف يستطيع أن ينصحني المرشد التربويّ، وهو على علاقة جنسيّة محرّمة مع أستاذة الإنجليزي؟!" توقف الطالب قليلاً؛ سمع من خلفه أحدًا يقول:
- يا لهذه السخافة.. كم هو وقح.
ينظر إلى وجه المدير، يرى علامة الافتراس تشكّل ملامحه، يكمل: "وأنت الذي لا تعرف سوى لغة الضرب فوق باطن الأيدي.. كم حثثت الطلاب بأن يخبروا أهلهم على دعمك في عمل سياسيّ جديد.. لو أنكم حريصون علينا بهذا الشكل لتعلّمتم من إحدى المدارس البعيدة التي تعطي لطلابها وقتًا يقرأون فيه الروايات، وأنتم لا تجعلونا نصل إلى قاعة لعبة الطاولة التي تزعمون بأنّها خاصة بكم فقط!"
في رمشة عين، يقفز المدير، يبادر بضربة عصا عنيفة، يتلقاها الطالب وهو مثل قالب ثلج؛ يمشي مغلّفًا بالهدوء، متوجهًا صوب الباب الخارجي، مسترسلاً بخيط رؤياه: "بهذا الأسلوب قتلتم الكثير من العوالم التي نحبّها في داخلنا، لذا لم تعد هذه المدرسة تناسق ما نحلم به، فهي فرزت طلبة تجيب ولا تسأل، تقرأ ولا تفكّر"
الصدمة تعانق المدير، ينفث نفسًا ثقيلاً، يصرّح:
- تجاوزت على قداستنا.. لقد حُرمت من المدرسة رسميًّا.
انتهى يوم رفرف فيه العلم كثيرًا ممّا لم يحدث من قبل، تساءلت الطلبة: "هل انكشفت عقولٌ صحراويّة من قبل يقظة أحدهم؟"
مرّت ثلاثة أعوام، التقى الطالب زميلاً شاركه مقعد الدرس، سأله عن أخبار المدرسة، أجابه بأن كلّما تمضي بهم نصف سنة، يُقتل شيءٌ ما في داخلهم.. سأله ثانية:
- ما حالكم مع الدروس؟
ضحك كثيرًا، أخبره:
- أستاذ الفيزياء قرر عدم استخدام ساعته اليدوية أبدًا؛ لأنّه أخطأ في حل مسألة زمنيّة.
|