أخيراً نامت طفلتها "ديانا" بعد نوبة بكاء حادّة، هي أيضاً بحاجة إلى ساعاتٍ من النوم بعد مطارق ألم الضرس الذي كان يقضاً طيلة الليل، فتحت نافذة الشباك كي تسمح لنسمات الهواء تدخل بيتها، كان صباحاً ربيعياً رائعاً، حيث الشمس ترسل أشعتها الذهبية في كل مكان، فيما كانت العصافير تعزف سيمفونية عشق الحياة، وتمارس الحُبّ علناً، المياه القادمة من قمة جبل "هورامان" بعد ذوبان الثلوج، وجدت طريقها في القنوات المائية التي حفرتها الطبيعة عبر آلاف السنين، خرجت إلى حظيرة الحيوانات تتفقدها، أحضرت لها الماء وبعض الحشائش، دخلت بيت الدجاج لتطلق سراحها بعد أن جمعت ما جادت به أرحامهن من بيض، الشمس تزحف حيث كبد السماء، سمعت أم "ديانا" أصوات قصف المدافع، ترمق من بعيد تحليق طائرات، هذا المشهد ليس جديداً عليها، فقد تعوّدت عليه طيلة سنوات الحرب العِجاف، ولكن هذه المرّة المشهد يختلف، بدأت القذائف تسقط خلف السلسلة الجبلية التي تحيط بقريتها، أما تحليق الطائرات فصار أكثر قرباً من قبل، سارعت لتغلق نوافذ وأبواب بيتها لكي لا تصل هذه الأصوات المزعجة إلى أسماع طفلتها الجميلة "ديانا" ذات الربيعين، والتي فقدت والدها في العام الماضي في محرقة الحرب المجنونة.
في طريقها إلى بيتها سمعت أحد الرجال يصرخ بصوتٍ عالٍ بواسطة مكبر الصوت "غاز .. غاز" ويشير بيده نحو السماء التي اكتست طبقة طحينية بيضاء .. بدأت تنتشر في الجو رائحة عبقة تشبه رائحة التفاح، أخذ الناس يخرجون من بيوتهم مهرولين نحو الخارج، أسدلتْ شالها الأسود على وجهها، وكمّمت أنفها بطرفه، هرولت سريعاً لبيتها، بلمح البصر تحتضن طفلتها التي كانت تغط بنومٍ عميق، بسرعة فائقة وضعتها في مهدٍ من القماش، ربطته على ظهرها، مع هول الصدمة والرعب أسرعت مع المغادرين إلى المجهول، قطعت عدة كيلو مترات مشياً على الأقدام، تقطّعت أنفاسها وتيبّست شفتاها، وهي تشاهد المئات من جثث النساء والأطفال مرمية في كل مكان من شوارع وأزقة وساحات قريتهم، حتى الحيوانات كان لها نصيب من ذلك الموت الغريب الذي اجتاحهم دون سابق إنذار.
وصلتهم سيارة شاحنة لتأخذهم بعيداً عن منطقة الخطر، بالكاد استطاعت أن تجد لها موطأ قدم فيها بين العشرات من النساء والأطفال الذين تشبثوا بها كغرقى يتشبثون بقارب النجاة، الشاحنة تبتعد بأقصى سرعتها، ولا تبالي أن تدوس على تلك الجثث المرمية، فالوصول إلى منطقة أمان بأقل الخسائر هو الهدف المنشود في مثل هذه الظروف.
بدأت تشعر بالغثيان وبحاجة للتقيؤ، فقد تحولت رائحة التفاح إلى رائحة عفنة لا تطاق، العجوز التي قربها تقيأت سائلاً أخضراً، ثم دخلت مرحلة الاحتضار، وتلك الأخرى التي تقابلها أصابتها نوبة هذيان وتبعتها هستريا، الأطفال يستنشقون الهواء بصعوبة .. أخيراً وصلت الشاحنة منطقة الأمان عند الحدود العراقية الإيرانية، هول الصدمة أنساها أن تتفقد طفلتها، في هذه اللحظة غابت "أم ديانا"عن الوعي تماماً، سارع المسعفون إلى إنعاشها بقنينة "أوكسجين" صغيرة محمولة على الكتف، عندما استيقظت كان همها أن تفك المهد عن ظهرها، فغرت الدهشة فاهها، صدمة أخرى لم تخطر على البال، لم تكن "ديانا" في المهدِ، بل دُميتها.
|