المصلحةُ في اللُغَةِ هي : المنفعةُ ومافيهِ صلاحُ الشيءِ .وعند المالِكِيَة اصل من الاصولِ التي بنى عليها الامام مالك اكثرَ فقهِهِ .وقد اشتهر الفقهُ المالكيُّ بانَّهُ فقهٌ واقعيٌّ يبتني على مقاصدِ الشريعةِ ، ويستوحي روحَها .
الاحكام تابعةٌ للملاكاتِ والمصالحِ والمفاسد
------------------------------
ولكنَّ فقهاءَ الاماميّة ايضاً قالوا : (أنَّ الاحكامَ تابعةٌ لملاكاتٍ ومصالحَ ومفاسد ) ، وهذه القاعدةُ مستندَةٌ على اصلٍ كلاميٍّ وهو : ( ان افعالَ الله تعالى معَلَلَةٌ بالاغراض ؛ لانه حكيمٌ وافعالُهُ منزَهَةٌ عن العبَثِ واللَغوِ ، ولكنَّ الغرضَ لايعودُ اليه جلَّ وعزَّ بل يعود الى العباد) . ومن الامثلةِ على كونِ الاحكام تابعة لملاكات ومصالح ومفاسد واقعيّة ، بيعُ الدمِ ،في السابق كان ملاكُ حرمةِ بيعِ الدم هو عدمُ وجودِ منفعةٍ عُقَلائيّةٍ لهُ . امّا اليوم ، وبعدَ اكتشافِ وجودِ منفعةٍ محللةٍ له وهي انقاذُ حياةِ المرضى والجرحى، وحازَالدمُ بذلكَ على ملاك اخر ؛ فجازَ بيعُهُ وشراؤُهُ .
وهذا المعنى من تبعيّةِ الاحكام لمصالح واقعيّة ، ومن تقسيم المصالح الى ضروريةٍ وحاجيّةٍ وتتميميّة ، اشارَ اليهِ الشهيدُ الاول رضوان الله عليه ، وهو من اكابر فقهاء الاماميّة الذين تحدثوا عن مقاصد الشريعة ، وانَّ الاحكامَ مبنِيَّةٌ على ملاكات ومصالح واقعيّةٍ . يقول الشهيد الاول : ( الشرعُ معللٌ بالمصالحِ فهيَ امّا في محلِ الضرورةِ او محلِّ الحاجةِ ، او التتمّة ، او مستغنىً عنها امّا لقيامِ غيرِها مقامَها وامّا لظهورِ غيرها مقامَها وامّا لظهورِ اعتبارِها ) . ( المظفر،اصول الفقه ) . وقد اختلف في كون المصلحة التي هي ملاك الاحكام ، هل هي علةُ الحكمِ ام حكمتُهُ ؟ .
والشهيد الاول تحدثَّ كذلك عى ان الاحكام شرعت لجلب المنفعة اولدفع ضررٍ ، والنفع والضرر يمكن ان يكونا دنيويينِ او اخرويينِ ، ويمكن ان يكون المقصود مقصوداً اصليّاً او مقصُوداً تَبَعّيّاً . ( الشهيد الاول ، القواعد والفوائد ، ج1 ، ص35 ، قاعدة 6 ) .
وماقاله الشهيد الاول هو نفسُ ماقالهُ الشاطِبِيُّ في المُوافَقات ، فالشاطبيُّ يقول: ( المعلومُ منَ الشريعةِ أَنَّها شُرِعَت لمصالِحِ العباد ، فالتكليفُ كُلُّهُ ، امّا لدَرءِ مفسَدَةٍ ، وامّا لِجَلبِ مصلَحَةٍ ، أو لَهُما معاً ) المُوافَقات : ج1 ، ص 199.
تقسيمات مالك للمصلحة
----------------------
قَسَّمَ الامام مالك المصلحة الى ثلاثةِ اقسامٍ هي :
1- المصلحةُ المعتَبَرَةُ : وهيَ المصلحةُ التي دَلَّ الدليلُ على اعتبارها .
2- المصلحةُ المُلغاة : وهي المصلحةُ التي دَلَّ الدليلُ على الغائها .
3- المصلحة المُرسَلَة : وهي التي لم يَدُّلُّ الدليل على اعتبارها ولاعلى الغائها فهي مرسلة اي : مطلقة . والمصلحة المعتبرة هي اشبه بالظن المعتبر عند اصوليّي الاماميّة ، والمصلحة المرسلة اشبه بالظن المطلق ، الذي قام دليل الانسداد الكبير على اعتباره .
الشيخ الانصاري والمصلَحّة السلوكيّة
-----------------------------------
ذهبَ الشيخُ الانصاريُّ الى فرضِ المصلحةِ السلوكيّةِ في الامارات لتصحيح جعلها . (فرائد الاصول،ج1، ص42) .والشيخ ذهب الى فرض المصلحة السلوكيّة ؛ لانه لايتبنّى القول بتصحيح جعل الامارة على نحو الطريقيّة المحضة ، ولايقبل كذلك تصحيح جعل الامارة على نحو السببيّة ؛ لانّهُ يستلزمُ القولَ بالتصويب.
ولتوضيح مسلك الشيخ الانصاري بالمصلحة السلوكيّة اقول : ان السَبَبِيَّةَ يمكنُ تصورُها على ثلاثةِ اقسامٍ وهي :
1- السَبَبِيَّةُ الاثباتِيَّة : وهي ان الامارةّ سببٌ في اثبات الحكم الواقعي ؛ لان الله ليس له احكام واقعيّة ، وانما الامارة هي التي تثبت حكما . وهذا هوَ قولُ الاشاعرة.
2- السَبَبِيَّةُ الانقلابيِّة : وهي التي تعترفُ بوجود احكام واقعيّة لله تعالى ، ولكنها ترى ان الامارةَ تقلب هذه الاحكام الواقعيّة بما يتطابق مع الامارة ، فهي لاتثبت حكما ، وانما تقلب حكما بما ينسجم مع مؤدى الامارة . وهذا القول قال به المعتزلة .
3- السَبَبِيَّةُ التداركيّة : وهي السببية التي لاتثبت احكاما ؛ لانها تؤمن بوجود احكام واقعيّة ، ولاتقلب هذه الاحكام بما يتوافق مع الامارة ، وانما هي سببية تداركية ، يُتَداركُ بها مصالح الواقع الفائتة عند خطأ الامارة في ادراك الواقع . وهذا قول الشيخ الانصاري ، قاله حتى لايقع في التصويب الذي لايقبله الاماميّة .
مصالح الدول وفقه المصلحة
---------------------------
وفقا لفقه المصلحة الذي قال به الامامُ مالك ، اين نضع مصالح الدول ؟ فالولايات المتحدة تقول انَّ لها مصالح في منطقتنا ، والدول الاوربية تدعي ان لها مصالح في افريقيا . والدول الاخرى تدّعي ان لها مصالح ، وبالتأكيد أنَّ هذهِ المصالح ، لاتدخل في المصالح المعتبرة التي اعتبرها الشارع ، فهل تدخل في المصالح المرسلة ؟ بالتأكيد انَّ مثلَ هذهِ المصالح لاتدخل تحت عنوان المصالح المرسلة ؛ لانَّ المصالحَ المرسلةَ لها ضوابط في الفقه المالكي ، وهي ان تكون المصلحةُ مصلحةً واقعيّةً ، لامصلحةً موهومةً . وينبغي ان تكون المصلحة منسجمة مع مقاصد الشريعة ، ولاتؤدي الى ظلمٍ وفسادٍ .
فلاقيمة لمصلحة فرنسا في احتلال الجزائر ، فهذهِ مصلحةٌ ملغاةٌ ، بل المصلحة بوجود مقاومة جزائرية تطرد المحتل ، وتحرر الارض من دنس الاحتلال .واحتلال الصهاينة لارض فلسطين بلحاظ مصلحة اليهود بايجاد وطن قومي لهم ، هذه مصلحة ملغاة ، لانها تتعارضُ مع مقاصدِ الشريعةِ ، ومع مصلحة الشعب الفلسطيني بالبقاء على ارضه . ونضال الفلسطينين ضد الصهاينة مصلحة حقيقية لهم ، في تحرير ارضهم ومقدساتهم ، وطرد المحتليّن . هذا هو فقه المصلحة ، ليس فقها تبريريا ؛ وانما هو فقه واقعي .
وفي الختام ، لايمكن لاية قوةٍ غاشمةٍ ان تتوكأ على فقه المصلحة ، لتبرير احتلالها وقمعها للشعوب الاخرى
|