مُتَّكِئا على عَصايَ ، قلتُ ذاتَ فالنتاين ، لحشدٍ مُختَلَطٍ ، إكتظَّت به قاعةٌ على إتساعها ، في ورشة عَصْفٍ حِواريٍّ ، نظمتها باقةٌ من الجمعيات الخيرية العاملة في قضايا حماية الأسرة ، في هذا العالم سريع التغير :
الحبُّ النبيلُ الأنيقُ ، سيداتي سادتي ، مودةٌ ورحمةٌ لا تتَّسِعُ إلاَّ للمشاعرِ النبيلة الأنيقة . قِيَمُه ، وسائله وأغراضه إيجابية بالضرورة . يتحصن فيها كلُّ سَويٍّ للبناء في حواضنه . ولكن ، قد يَحْدثُ أن يضطرَّ البعضُ في ثناياهُ والوجعُ يغزوهُ ، للرحيلِ أو الإستغناءِ أو الإبتعادِ ، عن عزيزٍ له .
البعضُ مِنا ، قد يعيش مع شريك له أحداثا مؤلمة ، تلتبسُ في ثناياها المعاني ، وتغيبُ المضامين . فيسودها كيدٌ وغِلٌّ وتخريب . ويَشيعُ في جَنَباتِها نكَدٌ . يعتقلُ الشراكة في زنازينَ مُكتظةٍ بالأحزان ، مُثقلة بهمومِ الإصطفاف المُتغاضِب ، ولَيِّ الأذرُعِ المُرتَجَل . فيضطر في ظلِّ أعطابِ الفَهم وسِيادة الوَهْم ، ونفاذ الصبر ، لهجرِ تلك الشراكة ، لاعِناً غيرَ آبِهٍ ولا آسِفٍ .
عريفُ الأمسيةِ صَيدلانيٌّ ، في الأربعين من عمره ، كان يعاني آنذاك ، من آثارٍ جانبيةٍ لخلع زوجته له قضائيا ، قاطعني سائلا ، وقد حسب أنني قد أنهيتُ قَوليَ ، وأنا أحاولُ إشعال لفافتي : أسألك يا شيخنا ، عما يُحوِّلَ الإنتماء لرياضِ الحُبِّ ، من حُلُمٍ لِعشاق الحياة ، لكوابيسَ ذات سمعة سيئة . على حوافه كثرة من المتعثرين ، ألسنتهم مُثقَلَة بتحذيرات منه . ما القَشُّ الذي يَقصمُ ظهرَ المُتسكِّعين على أرصفةِ الحُب ، ويُحَوِّلهم إلى بَواكيَ تتسولُ شفقةً وحَزَن ، ويُصَيِّرُعلاقاتهم مَلاطمَ ، يُهيلونَ في ظِلِّها ، الكثيرَ منَ الإنتقاداتِ والرتوش ، ويبشِّرونَ بانقراض الحب ؟!
قلتُ دون أنْ ألتفتَ للسائلِ الجالسِ على يميني : بعيدا عن كلِّ ما قد يَجتَرُّ الشاكي الباكي في مُطوَّلاته ، فإن أسبابَه أيا كانت ، سجينة مضائق ودهاليز تجربته الشخصية ، بالغة المحدودية ، وموسومة باتجاهاته ومرجعياته .
أشدُّ الرماديين تفاؤلا ، مِمَّن تحدثوا قبليَ اليوم ، بِوجعٍ عن الرومانسية ، قد بشَّروا بقرب رحيل الحب بالسكتة الدماغية ، أو بالضربة القاضية الفنية ، ناصحين بالتجهيز لجنازته ، والإستعداد لتوديعه . أما السوداويون ممن تحدثوا من بعدهم ، فقد أكدوا أن الحب قد قضى ومضى . باد بعد أن ساد . وينصحون بالبحث عن علاقات وشراكات أخرى ، بديلة أو موازية .
أما أنصار الحب بكلِّ صُوَره ، فيرون كثرة تحدياته ، وضرورة البحث عن مهارات الإرتقاء به ، أهم وأجدى من البحبشة عن أسبابٍ لِتَفْشيله . وهُمْ يرونَ أنَّ حالَ مؤسسةِ الزواج ، لم يَعُدْ يسرُّ الخاطَرَ . تراجَعَتْ صورتَها الذهنية عند الشباب ، بشكل باتت تتطلب الكثير من التَّبصُّرَ ، لإستعادة الثقة ببنيتها ووظائفها . بعد أن أساءت عوامل كثيرة إلى هذه المؤسسة بالغة الحيوية ، سواء من قبل الذين اقتحموها دون تدريب أو ضوابط ، أو هؤلاء الذين تسللوا إليها ، عبر شكلانياتها ومظاهرها المادية ، أو عبر تفلتات أتباع الكيفما كان ، وهات إيدَك وإلحَقني .
ما أنْ تَوقفتُ لإلتقاط شيء من أنفاسي ، إنتَصَبَت واقفةً ، إمرأةٌ تجلسُ في الصف الأمامي من القاعة ، إعلامية في الثلاثين من عمرها ، علمتُ فيما بعد ، أنها تُقاضي زوجَها منذ سنوات ، للتفريق بينهما بدعوى الشقاق والنزاع وعدم الإتفاق . قالت موجهة سؤالها إليَّ : ما العمل يا سيدي ، إن ضاق الصدْرُ بالشراكة ؟
قلتُ بتمهل متعمد ، مشددا على مخارج كلماتي : ساعَتَها ، لا تحبسي النفس في أحلام البدايات ، ولا في أسى الواقع وتشابكاته . ولاتبحثي كثيرا ولا بعيدا عن الذات ، فالعيب فيكما معا . ليسأل كلٌّ منكما نفسه ، أين سجن مشاعره آخر مرة ، أو أين أضاعها أو دفنها . فالمشاعر الصحيحة , لا تموت وإن سكَنَت أو حتى غَفَت . وإن أسلمتِ الروحَ يوماً ما ، ستجدون أن قَتَلَتَها ، همْ مِنْ أشباه العشاق ، ومِنْ مُتَصَيِّدي الوجَبات السريعة في العلاقات .
إقتربت من المنصة ، سيدة منقبة كانت تجلس بين الحضور ، قدمت نفسها ، ربة بيت وأم لصبيين ، طالبة دراسات عليا ، تبحث في قضايا الأمومة والطفولة على وجه الخصوص والاسرة على وجه العموم ، سألتني قائلة : يا شيخنا ، عندما يفترق شخصان متحابان ، الى أي مدى يكون آخر شجار بينهما ، هو السبب ؟
قلت مبتسما : لنتفق في البداية ، على أننا متفاوتون في القدرة على الصبر وعلى تحمل ، متواليات الهزات وإرتداداتها وتراكم آثارها . ومن ثم أقول ، بعيدا عن متاهات لعبة تلبيس الطرابيش والطواقي ، وعشوائيات القصف العبثي المتبادل ، يُنكر جُلُّ عقلاء المجانين ، في أيِّ شجارٍ قد ينشب بينهم ، أنْ يكون حطام علاقاتهم ، محصورا في آخر خلاف بينهم . لإيمانهم أنَّ رياح العلاقات وزوابعها وعواصفها ، لا تهُزُّ ولا تُدمِّرُ إلاّ المشاعر والروابط المتصدعة الأيلة للسقوط أساسا .
وهنا ناولني عريف الحفل رسالة مطوية بعناية ، كُتِبَ فيها بخطِّ أنيقٍ : سامِحْني يا سيدي ، لأني آثرتُ ان أسألك كتابة دون أن أواجهك . أنا جَدَّة ٌ لِباقَةٍ من الأحفاد ، في السبعين من عمري ، محامية متقاعدة . من المقلق يا سيدي أن البعض وأنا منهم ، لا ندري رغم طول المدة ، كيف نكون من أهل الحب ، لا من متوهميه ؟
قلت للجميع وأنا أحيي السائلة الغائبة : من رحمةِ الله بعباده ، أنْ جعل موازين مشاعرهم ، في أيديهم ، لا في أيدي أمثالهم . لأن البعض مِنا ، يستطيع أن يغش الناس بمشاعره ، ولكنه إن كان عاقلا حصيفا ، لا يقبل أو يستسيغ غش نفسه . بالوزن الصحيح الحكيم ، يستطيع أن يعرف إن كان من أهل الهوى ، أم من الجالسين على حوافه . فإن كان ممن يَفرَحون حين يُعْطُون ، فانه من أهل الحب ، وإن كان يَفرحُ أكثرَ بما يُقدَّمُ له ، فهو ممن على الحواف .
تقدمت من المنصة صبية تمسك بيد شاب ، وقالا بصوت مبتسم ، خلته واحدا : قل لنا يا شيخنا قبل أن تختم : ما أقصر الطرق للحاق بالمحبين .
قلت : سيروا بركاب الحب وأطيلوا ، تلحقون بالخُلَّصِ مِنْ أصحابه . شرط أن لا تيأسوا من رزق الله ، ولا من قدرتكم على نيل حصتكم منه . تشبهوا بكرام المحبين . فإن لم تكونوا مثلهم ، فإن التشبه بهم فلاح . الحب من تقوى الإيمان . ليس المطلوب أن يكون في جيبك كتابا من كتب الله لتكون مؤمنا تقيَّا. ولكن ، من الضروري أن تكون في أخلاقك آيات ربانية . إجعلوا كل من يراكم ، يتمنى أن يكون حبيبكم . فنقاء القلوب ودفؤها ليس غبا ء ، وإنما فيض يرزقه الله لمن يشاء من عباده الصالحين .
|