• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : العالم بوجههِ الآخر .
                          • الكاتب : كاظم عبدالله .

العالم بوجههِ الآخر

 ما أكثر ما تكون الأشياء التي تبدو لنا في ظاهرها من البساطة والسذاجة ما يغري الإنسان عن سبر أغوارها العميقة وبواطنها المركبة ما يصل غالبها حد التنافر والقطيعة مع ذلك الظاهر البرّاق الذي خطف أبصار الناس وأخذ بألبابهم، ولعلَّ أهم ما يدفعنا نحو عملية التسطيح هذه، هو البعد الذاتي للإنسان وميله اللامعقول إلى تبسيط الأشياء وتسطيحها، وهذا هو الذي قعد بالإنسان أمداً من الدهر قبل أن يرقى سلم الحضارة والتطور، إلّا بعدما أن كسّر بتساؤلاته الجريئة ربقة الظاهر وسطوة المألوف.
وإنّ من أهم تمثلات هذه العملية وأشملها على الإطلاق، هو ما يخص عالمنا المحيط بكل ما يحويهِ من مادية وتجرد، فكما أن لهذا العالم هذا الوجه الوديع الظاهر لنا، الذي أعتدنا عليه وأنسنا به، هناك وجه آخر أكثر خفاءً وأشد غموضاً وتعقيداً، ما قد تنقلنا معرفتهُ إلى أُفق فكريٍ جديدٍ، ويقصرنا على أنتهاج سلوك مختلف إزاءه.
فإنّهُ من المسلمات العلمية لعصر اليوم، وما أثبته علماء تجريبيون وفلاسفة، أنّ كل الإدراكات الحسية للإنسان، ما هي إلّا نتاج لتفاعل الخارج مع الذهن، فإنهُ لا يكون الأثر الحسي متعقلاً لنا ما لم يضفي عليه الذهن قوالبه ويُعمل فيه أدواته، فهناك فرق بين (الشيء في ذاته والشيء لنا) على حد تعبير (كانت).
فكل ما تراه وتلمسه أو تسمعه...، من أشعة تسقط على عدسة العين أو موجات تطرق طبلة الأذن؛ تتحول إلى نبضات كهربائية يلتقطها الذهن فيقوم بتفسيرها وتأويلها بما يتناسب مع طبيعته حتى يدركها ويعقلها.
أما ما يخص الأفكار المجرة فإنّهُ ممّا تواطئ عليه أكثر الفلاسفة العقلانيين، أنّ العلم بالشيء ما هو إلّا حضور لصورته وماهيته عند الذهن، وليس لشيء أن يبلغ عالم الإنسان الخاص ما لم يتقولب بقوالب الأفكار والمفاهيم.
وليس للإنسان حظ من الإدراكات الحضورية المباشرة لذوات الأشياء إلّا ما يخص انفعالاته الداخلية وتقلباته الباطنية كآلامهِ وعواطفهِ أو أفكاره ذاتها.
بل حتى هذه الأخيرة التي يدركها الإنسان إدراكاً مباشراً لا يمكن لها دخول حضيرة الوعي ما لم تصبح أفكاراً.
فالإنسان الذي كان يحسب بسذاجته أنه محاط بالمادة من جميع جوانبه، هو ليس إلّا محاطاً بالفكر وليس له إلى المادة بذاتها من سبيل.
فكل ما يحسبه الإنسان أشياءً ليست هي إلّا صورها، فهو لا يسمع ولا يرى ولا يلمس ولا يعقل إلّا فكراً، والفكر يملأُ عالمهُ ويغلفهُ من جميع جوانبهِ وجنباته.
ولا يظن القارئ أنّ ما تقدم ذكرهُ؛ هو انجرار وراء مذهب (هيجل) المثالي في أن العالم ليس إلّا أفكاراً للروح المطلق، ولا هو اجترار لمقولات (باركلي) الفلسفية وأنكاره للواقع المادي، وأن الشيء إما أن يُدرَك أو يُدرِك، بل ما هو إلّا نتيجة منطقية لتوظيف الحقائق العلمية الحديثة في البحث الفلسفي لفهم الكون؛ على خلاف ما ذهب إليه (هيجل) و(باركلي) من مقولات وإن كان يلتقي معهم في بعض من جوانبها.
ولعل هذا في الجملة، يفتح لنا الباب في فهم جديد لعلاقة الإنسان بالفكر، ونوع الدراماتيكية المتبادلة بينهما، وهوسه الدائم به منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، فكأنّهُ يعيش حالة من الإلجاء في أن يكون مفكراً في عالم من الفكر وإن كانت معالم هذا العالم توحي بغير ذلك.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=130051
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 02 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19