الجمال والجلال في هذا الوجود هما تجلٍ من تجليات اسمي الجميل والجليل . والجمال والجلال متحدان ، ومندمجان اندماجاَ محكماَ بحيث لايمكن التفكيك بينهما . فالزهرة في عالم الوجود هي تجلٍ من تجلياتِ الجمال الالهي ؛ فالزهرة منظرها جميل ، وملسمها رقيق جميل ، وعطرها جميل اخّاذ ، ولكنّها في نفس الوقت لها جلالها المستمدُّ من موقعيتها في الوجود ، فهي تحتل موقعا وجوديا ، وحيّزا وجوديا بين موجودات الكون الاخرى ، وعلى هذا الاساس تحرّم الدول المتقدمة قطعها ، والتجاوز عليها ؛ وهذا يؤكّد امتلاكها لجلال بقدرها ، يفرض تشريعا بحرمة التعدي عليها ، وانتهاك وجودها.
والجبال الشوامخ ، مظاهر يتجلّى فيها الجلال الالهي ، والهيبة والقوة والعظمة ، ولكنها في نفس الوقت هي مظهر من مظاهر الجمال الالهي ، لانها تحتل موقعا جماليّاَ في لوحة الوجود الجميلة .
الجمال في مظاهر الوجود
-------------------------
لو انعمنا النظر في مظاهر الوجود ، لوجدناها محكومة بالجمال حكما قسريا ، لايمكنها التفلت منه ، لانها تعبيرات وتجليّات للجمال الالهي .يقول الله تعالى :
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف : الاية : 7
(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) السجدة : الاية : 7
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) الصّافات : الاية : 6
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) النمل : الاية : 60
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) الحج : الاية : 5 ، والانعام يتجلى فيها هذا الجمال في رواحها وسراحها :
(وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) النحل : الاية : 6 ، وحتى الخيل والبغال والحمير فيها هذا الجمال ، وتلك الزينة الاخّاذة :
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) النحل : الاية : 8
الجمال في الصورة الانسانيّة
---------------------------
الانسان كائن مميّز ، اختاره ليكون سيد الكون ؛ ولذلك ميّزه عن سائر الكائنات حتى في الصورة وحسن القوام ، يقول الله تعالى :
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) غافر: الاية ك 64
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) التين : الاية : 4
جمال الخُلُق الانساني
---------------------
الجمال الانساني لايقتصر على جمال الصورة ، وجمال الظاهر ، بل لابد ان يصحبه جمال الاخلاق ، وجمال الباطن ؛ ولذلك حثّ الله تعالى تعالى الانسان ان يكون في سلوكه وتصرفاته جميلا ، فامره بالصبر الجميل ، والصفح الجميل ، والسراح الجميل ، والهجر الجميل ، والقول الحسن ، والجدال بالتي هي احسن ، والدفع بالتي هي احسن ؛ لان السلوك بلاجمال سيتحول الى سلوك جاف ، ينطلق من حسابات ومعادلات جافة لارحمة فيها ، ولاحب ولاعاطفة . يقولالله تعالى :
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يوسف : الاية 83
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الحجر : الاية : 85
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) الاحزاب : الاية : 28
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ) البقرة : الاية : 83
( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) العنكبوت : الاية : 46
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت : الاية : 34
الجلال في القران الكريم
------------------------
الجلال باكمل مصاديقه هو جلال الله تعالى ، وجلال الاشياء مستمد من جلال الله تعالى ؛ ولذلك حتى الموجودات العظيمة ذات الجلال والقوة ، لاتتحمل الجلال الالهي ، فالجبل تلاشى حينما تجلّى الله له ، يقول الله تعالى :
( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ
صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) الاعراف : الاية : 143
والله مصدر الجلال والعظمة ، والتنزه عن كل نقص ، يقول الله تعالى :
(وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن : الاية : 27 ، وقوله تعالى :
( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن : الاية : 78
الجلال والجمال يتجليان في الانسان الكامل
-----------------------------------------
الجلال والجمال يتجليان في مظاهر الوجود ، ولكن التجلّي الاتم لهما في الانسان الكامل . والانسان الكامل تحدث عنه الفلاسفة والعرفاء ، واعتبره الفارابي رئيس المدينة الفاضلة ، وعند ابن عربي هو المدينة الفاضلة ، وعند الشيعة الاماميّة هو الامام ، وعند ابن باجه هو انسان الهي ، والجمال والجلال يتعادلان في الانسان الكامل ، فهناك تعادليّة الجمال والجلال في شخصيّة الانسان الكامل ؛ لان الانسان الكامل هو اعدل النشات الانسانيّة - الجسمانيّة حسب تعبير ابن عربي . ( ابن عربي ، التدبيرات الالهية ، ص 163 ) .
والانسان الكامل يختزل الكون كله ، كما في الشعر المنسوب الى الامام علي (ع) :
اتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر ، او حسب تعبير ابن قضيب البان : ( الكون كله صورة القطب) .( ابن عربي الانسان الكامل والقطب ، القسم الاول ، ص 13 ) .
تعادليّة الجمال والجلال في المرأة
--------------------------------
الانسان الكامل لايفرق فيه بين ذكورة وانوثة ؛ لان الذكورة والانوثة تنتمي الى عالم الجسد ، والانسانيّة من مقولة اخرى ، الروح لاانوثة ولاذكورة فيها ، القيم لاانوثة ولاذكورة فيها ، والانسان الكامل هو من تتجلى فيه اسماء الله وصفاته ، فلافرق فيه بين ذكورة وانوثة ، الزهراء (ع) ومريم (ع) تجلّى فيهما الانسان الكامل ، والرسول(ص) والانبياء والمسيح وعلي تجلّى فيهم الانسان الكامل .
المرأة زينة الحياة الدنيا ، كما المال والبنون ، والمراة تتقدم على كل زينة دنيوية ، يقول الله تعالى :(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ال عمران : الاية : 14 .
فالمراة تجلّي الجمال الالهي اكثر من اي كائن اخر ؛ ولكنّ هذا الجمال الانثوي الذي خلقه الله ليؤدي وظيفته في الحياة ، لابدّ ان يعادله جلال ، والاّ تحول الجمال الى قبح ، ومساحيق واصباغ وتفلت من كل القيم الاخلاق .
الحضارة الغربية ركزت على الجمال الجسدي في المراة ، ولذلك اهانت المراة ، وانزلت من قدرها ، وتحولت المراة الى وسيلة اعلان تجلب الزبائن ، ابرزت الحضارة الماديّة جسد المراة ، واغفلت جمال عقلها ، وشفافيّة روحها ، والستر في حضارتنا ، ولااقول حجابا ؛ لانه لايحجب المرأة ، بل يستر مواطن الاثارة في جسدها من اجل تحقيق امن مجتمعي . والحجاب في حضارتنا له بعده الحضاري القيمي ، انه يقول للاخرين : ان المرأة عندنا ليست جسدا فحسب ، بل هي عقل وروح وقيم واخلاق ، هي تجسيد للجمال والجلال الالهيين .
|