يلاحظ الواصلون من الجنسيات العربية إلى أوروبا، الاختلاف الهائل بين النظام التعليمي الأوروبي ونظام المدرسة العربي، الذي يبدو هو الآخر متشابهاً في تكلّسه وافتقاره إلى الإبداع، مع القليل جداً من الومضات التي بدأت تظهر في بعض الدول التي تعطي التعليم قدراً أكبر من اهتمامها.
حين نقول النظام التعليمي، فنحن لا نعني فقط السلم التعليمي المختلف، بقدر ما نقصد الطريقة التي تدار بها المدرسة وتُخلق بها علاقة صحية بين المعلم والتلميذ، مبنية على الالتزام بدون ضرب أو تعنيف. صحيح أن عدداً كبيراً من المدارس العربية أوقف العقوبات الجسدية، إلا أن المشكلة لم تحل، حيث تفهم كثير من المؤسسات التعليمية، أن هذا الإيقاف يعني التدليل ومواجهة الفوضى والاستهتار من قبل التلاميذ، فلسان حالهم يقول، إما أن تتركونا نربيهم على طريقتنا، وإما أن لا تسألونا عن تحصيلهم أو أخلاقهم.
في المدرسة الأوروبية تدار هذه المعادلة بطريقة أسهل، ترتكز على الحفاظ على كرامة التلميذ/ من خلال التعامل معه كشخص قادر على التمييز بين ما هو خطأ أو صواب، ومن خلال إيصال رسالة له مفادها بأن لحريته حدوداً، وأن عليه أن يحترم مساحات الخصوصية التي يتمتع بها الآخرون، سواء كانوا زملاء في الفصل أو أشخاصاً آخرين من خارجه. كثيراً ما أقارن بين الطريقة التي كنا ندرس بها، والطريقة التي يدرس بها أبناؤنا في الدول الغربية. كنا نعيش المرحلة الابتدائية في رعب دائم من الضرب «الذي هو الوسيلة الوحيدة لتعلم جدول الضرب»، ومن الإرهاب ولغة التهديد والوعيد التي يستخدمها المعلمون من أجل إجبارنا على حفظ الآيات والأحاديث والقصائد والقوانين، التي ما تلبث أن تنسى وكأنها كانت محفوظة في ذاكرة سمَكية مؤقتة. في المدارس الأوروبية لا يوجد مثل هذا الضغط والخوف، الذي يتحول في بعض الأحيان لعقدة نفسية كبيرة. على العكس من ذلك يجتهد المعلمون والمربون في جعل المدرسة مكاناً جاذباً، خاصة لأبناء المرحلة الأساسية الأولية، الذين تزدان فصولهم بالألوان وساحاتهم بالألعاب في محاولة للمزج بين التعلم والمتعة، وبشكل يجعل هؤلاء التلاميذ، الذين هم ما يزالون في سنوات طفولتهم الأولى، محبين للمدرسة مقبلين عليها لا نافرين خائفين متحججين كل يوم بالمرض خوفاً من تعنيف أو مساءلة.
الملاحظة الأخرى هي أن هذه المدارس لا تعتمد على الواجبات المدرسية، والهدف من وراء ذلك هو منح التلاميذ فرصة أكبر للعب والاستمتاع بطفولتهم، عوضاً عن إشغال عقولهم الصغيرة بالتفكير في نتيجة الواجب والنوم بقلق ترقباً لتقييم المعلم. بالمقابل، فإن اليوم الدراسي قد يكون أطول قليلاً من اليوم المعتاد عندنا، حيث يحوي ساعات للرياضة والمناشط الأخرى واستراحة للغداء، كما يحوي أيضاً بعض التمارين المنهجية، التي يتم حل معظمها في داخل الفصل بطريقة فيها الكثير من المرح، وبدون أن يتم إعلان كونها تمارين دراسية مرتبطة بتقييم أو درجات نهائية. أتحدث هنا عن المدرسة الأوروبية بشكل عام، للتشابه الكبير بين دول الاتحاد الأوروبي في طريقة التعليم، لكن من المعلوم أن هذه الدول تختلف اختلافات يسيرة فيما بينها في تطبيقها لما يمكن وصفه بالفلسفة التعليمية، حيث نجد أن منها ما يبدو أكثر تطرفاً في العمل لصالح التلاميذ كفنلندا، التي تتمتع بيوم هو الأقصر أوروبياً، وتقويم دراسي حافل بالإجازات، كما أن منها ما يحاول الحفاظ على الطرق التقليدية عبر مواءمتها بشكل تدريجي مع الحداثة، وهو ما نجد أمثلته في دول شرق أوروبا، التي انضمت حديثاً للمنظومة الأوروبية.
من أهم أركان فلسفة التعليم الأوروبية، حقيقة أن الدراسة الجادة والحشو الأكاديمي ليس الشيء الوحيد الذي يجب أن يقدّم للتلاميذ. يقول الأوروبيون إن الذي يحدث حينما يتم تكريس معظم الوقت للمناهج الدراسية المجردة بحجة إكمالها قبل وقت كافٍ من دنو الامتحانات، هو أن يتوقف عقل الدارس عن قبول مزيد من المعلومات، أو على الأقل أن يقبلها لكن بعد أن يموضعها في ذاكرته الهامشية المؤقتة. هكذا لا يكون الوقت المخصص للعب والترفيه والرحلات واكتشاف الطبيعة مجرد ترف، بقدر ما يكون جزءاً أساسياً من العملية التعليمية والتربوية.
التعليم في معظم الدول الأوروبية إجباري في مرحلته الأساسية ومجاني للجميع، إلا من يختار بالطبع مدرسة خاصة أو أجنبية، كما يتميز من جهة أخرى بكونه علمانياً، لا بمعنى رفض الدين، ولكن بمعنى أن لا يكون المنهج ذاته منطلقاً من وجهة عقائدية دون غيرها. هذه الأسس ترسخت عبر العقود وقد يعود تاريخها إلى الثورة الفرنسية، أو إلى الإمبراطور نابليون الثالث في أواسط القرن التاسع عشر. لعل هذا يفسر لماذا يبدو الحياد عنها اليوم أو محاولة تغييرها صعباً. أما مجانية التعليم الأساسي فهي مجانية فعلية وشاملة، وليست كما يحدث في بعض دول الجنوب التي تعلن تطبيقها مجانية التعليم، ثم ما تلبث ان تطالب التلاميذ برسوم للأنشطة ورسوم للأدوات المدرسية والكتب وحصص التقوية. هكذا يمكن لأبناء جميع الطبقات، ومهما كان المستوى الاجتماعي الذي ينتمون إليه، أن ينخرطوا مع غيرهم في المدرسة نفسها بدون تمييز.
للمدرسة كذلك دور اجتماعي في جعل هذا التلميذ لبنة اجتماعية صالحة، من خلال غرس احترام الآخر، والتنفير من التعصب والعنصرية، والحض على مكارم الأخلاق كالمشاركة والإيثار والعمل الاجتماعي خارج أسوار المدرسة، الذي يحظى هو أيضاً بتقييم خاص قد يكون أهم من التقييم الأكاديمي. يعرف الطفل عبر المدرسة حقوقه منذ وقت مبكر، ويعلم أن هناك حدوداً يجب أن لا يتجاوزها أحد، حتى إن كان أقرب الناس إليه. هذا النوع من التوعية يزعج كثيراً من الآباء الذين يرون فيه تحريضاً عليهم، فهم يرون أنهم لا يستطيعون أخذ راحتهم في ضرب أبنائهم حينما يخطئون، خشية من أن يعتبر ذلك نوعاً من الاعتداء الجنائي الذي قد يقود لنزع حضانة الطفل من الأبوين. من أهداف المدرسة كذلك تنشئة جيل قادر على الاعتماد على نفسه، وغير منتظر لأن يخدمه أحد، ابتداء من التدريب على ارتداء الملابس، واستخدام دورات المياه في السنوات الأولى، وحتى تجارب السفر والتخييم، ثم السفرات القصيرة خارج المدينة أو البلاد في السنوات المتأخرة.
لم تصل المدارس الأوروبية لما وصلت إليه نتيجة لقرارات سياسية فوقية، وإن كان للإرادة السياسية أهمية لا يمكن التشكيك فيها، ولكنها وصلت اعتماداً على عمل جماعي وتلاقح أفكار ساهم فيه كبار الفلاسفة والمفكرين، ابتداء من عصر الثورة الصناعية الأولى، وحتى مفكري القرن العشرين ومن تلاهم، كميشيل فوكو الذي اشتهر بانتقاده مبدأ الانضباط المدرسي المرتبط بالعقوبة ورفضه بعض ما كان شائعاً، كأن يتم اختيار أحد التلاميذ ليكون مكلفاً بمراقبة زملائه وكتابة أسماء مشاغبي فصله، لكن لعل أهم ما قدمه ميشيل فوكو للمدرسة الأوروبية ضمن إطار نظريته الشاملة والناقدة للسلطة، هو نقده ربط التقييم النهائي للطالب أو التلميذ بالامتحان. ليس المطلوب هو نقل التجربة الأوروبية بشكل حرفي فإن فيها ما لا يمكن نقله، لكن المطلوب هو أن ندرسها وأن نتمعن فيها من أجل الخروج برؤية خاصة وفق محددات الواقع والهوية.
كاتب سوداني
|