كتابة التأريخ تستند الى نوايا معرفية تمتلك الصدق والحقيقة، فما تمتلكه ذاكرة التأريخ والاحاطة الشمولية لمعرفة تفاصيل الأحداث، وعدم التلاعب بها، والمدهش أن نقرأ بعض الكتابات التي تحاول تحريف الحقيقة والتلاعب بها بواسطة اللعب بأساليب التوصيل القادرة على تغيير المعنى، وليّ عنق الواقع الحقيقي، وتلك جسارة في التضمير، وخيانة المتداول التدويني..!
نقرأ في بعض المواقع (أما الحسين لما أشار عليه بترك الذهاب الى العراق وخالفه قال استودعك الله من قتيل، وقد وقع ما تفرسه عمر..؟) أولاً: هل الرجل مؤهل للتشاور مع امام معصوم لقيم السماء؟ وثانياً: هل الموضوع الجهادي يحتاج الى مشورة؟ ثم تظهر القيمة السياسية؛ كونه حليف السلطة، وهذه المشورة لا تعد بذات قيمة؛ لكونها نصرة للباطل، وهو يعرف تماماً من هو الحسين، فحين قال له: إياك أن تشق عصا الطاعة في الأمة..! أجاب الحسين (عليه السلام): اتقِ الله في الأمة، فالقضية التي ينظر اليها أهل السياسة وأتباع السلطة، غير القضية التي تبناها الحسين (عليه السلام)، حتى أقحمه أحد العراقيين، حين لامهم في التخلي عن الحسين (عليه السلام)، فقال له:ـ أين كنت انت يا ابن عمر؟
ولابد للبحث في هذه المواضيع، أن يكون نابعاً من موقف موضوعي، وليس استدراجاً الى ملكة موهومة، فهذا الحدث لا يحتاج الى فراسة، فابن عمر أعرف بإمكانية السلطة وعبثها المرغوب من الشواذ، فلذلك نرى أن جميع المقاتلين كانوا لا يتحدثون إلا عن الجائزة المادية المرتقبة من قتل الحسين (عليه السلام)، والتأريخ ليس مرتعاً لتسويف الرؤى عن طريق التوهين لتشويش الفكرة، ثم جذب مرامي الكلام الى قصدي محرف؛ لأن القراءة بهذا الشكل المجزوء يعطي أحكاماً للشبه، ويوقع المتلقي في مطب الأحكام المتورية، نقرأ ما كتبوا (أرسل جيش مكون من أربعة آلاف مقاتل يتقدمهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وذلك بعدما استعفاه فلم يعفه) هذه القراءة تضمنت مسخ الواقع، كان ابن سعد لا يريد الاستعفاء مقابل تخليه عن حكم الري، فكان التخلي عن قيادة الجيش ضد الحسين (عليه السلام) مشروطاً بسحب عهد حكم الري، هنا الحيرة التي عاشها ابن سعد أن يزيد حكم الري بأي ثمن كان، حتى لو كان دم الحسين بن علي (عليه السلام)، والأهم من هذا انه كان يسعى لنهاية الواقعة دون قتال، يعني يطمح بانكسار الحسين (عليه السلام) دون قتال، وإلا فهذه الجمل الفضفاضة لا يمكن ان تبلغ الرشد ولا يتولد عنها آراء صائبة؛ كونها تخفي ضحالتها الفكرية؛ لأنها لا تستند الى أي نسب فكري للواقع الحقيقي في اغلب الأحيان تكون ناجمة عن رؤوس فارغة، لا يهمها سوى الضجيج وشد الانتباه الى مكوناتها القصدية.
وأما الجريمة الأكبر أن يسعوا جاهدين إلى التشويش على الهدف الأسمى في قضية نهضة الحسين، فرسموا حدوداً لانسحابه بكذبة عمر بن سعد على أن التفاوض كان مع الحسين لثلاث: إما أن يدعوه يرجع الى حيثما أتى، وإما يختار له ثغراً من الثغور يأوي إليه، وإما أن يتركوه حتى يذهب الى يزيد، فيضع يده في يد..! هذه الأمور في التدوين التاريخي القصد منها تحويل المتلقي الى تياه وضلال لا يجد فيها من حقيقة التأريخ شيئاً، والتأريخ فكر متوقد يستطيع أي متلقي ان يعثر على المطبات والزلل المرسوم في هذه المتاهات، فرسالة الحسين(عليه السلام) واضحة لا تحتاج الى لبس، وقد صرح مراراً: (مثلي لا يبايع مثله) فهو وضع منهج ان مثل كل مؤمن بقضيته لكل ورع تقي زاهد لا يبايع مثل هؤلاء المجرمين.
للحسين(عليه السلام) نهضة اصلاح وليس خطة سياسية او عسكرية ممكن أن تبدل حسب الظرف، وهذا الأمر الذي عمل المتحزبون على تغيير معناه، هذه النهضة هي وديعة التأريخ في ذمة الحاضر والمستقبل، بالرغم من أن لكل جيل قراءته الخاصة به على ضوء المكتشف التأريخي، وتطور أساليب البحث، فلم يعد هناك مكان لمثل التواقيع المزيفة.
مشكلتهم الحقيقية انهم ساروا خلف نهج بني أمية المرسوم بحرفنة، هم اتباع معلبون، التأريخ الحقيقي لا يعني ما حدث، بل ما سيحدث أيضاً، فمن نكت بقضيب في يده على ثنايا الحسين حتى اعترض انس بن مالك:ـ ارفع يدك عنه، طالما رأيت رسول الله يقبل هذه الثنايا..! ومن مسير أهل البيت الى الشام ليتغنى: ليت اشياخي ببدر شهدوا..! لابد من الانصاف والروية في قراءة التأريخ، هذه ذمم لا يُستهان بحرمتها.
|