لم يكن ليقبل الذل فأرتأى الموت بعز على الحياة، مضحيا بكل شيء في سبيل الله فجعله آلله منارا ينير درب الأحرار في كل زمان ومكان ،متقلدا سيف البطولة والإباء حاملا معه العيال والأهل والاخوة ،معولا على التوكل على الله سبحانه، باذلا النفس الغالية في سبيله تعالى، مذكرا بضرورة طاعة الله في كل برهة لأن رضا الله هو الغاية الاسمى والهدف النبيل فسعى للشهادة بكل معانيها فكان شهيدا أبيا وخط بدمه الطاهر خارطة الحياة الأبدية بخلود أهداف نهضته المباركة والتي سعى من خلالها إلى الإصلاح في امة جده رسول الله صلى الله عليه وآله،
بعد أن استشرى الفساد والظلم والاستبداد أبان عهد الامويين الذين عاثوا في الأرض فسادا ولم يدخروا جهدا في تضييع الهوية الإسلامية للفرد المسلم، فحاولوا بشتى الطرق زرع الفتنة بين أفراد المجتمع ، وبعد أن حاكوا المؤامرات ودبروا الدسائس للنيل من الحق المتمثل بعلي بن أبي طالب عليه السلام في محراب الكوفة ،والتضليل الإعلامي الذي مارسوه ضد الإمام في الشام إلى حركاتهم التخريبية بعد اِتباع الشيعة للامام الحسن بن علي عليه السلام وما فعلوا من المكائد والحيل وزرع الفتنة إذ عمدوا إلى الغدر والخداع، وهو ديدنهم على كل حال ،اما يزيد الذي كان مسلطا على رقاب الأمة، يعبث بمقدراتها ،ويسير الدولة وفقا لرغباته وأهواءه، كان قد اضاف جريرة اخرى وهي الإعلان بالفسق والفجور ، ومجالسة ندماءه على الخمر ، يلاعب القردة حتى اذا مات قرده الذي يدعى بأبي قيس أعلن الحداد وأمر الناس بالحزن، رأى الإمام الحسين عليه السلام وهو سيد شباب أهل الجنة وسبط النبي محمد صلى الله عليه واله ، أنه لا مناص من اتخاذ أمر حاسم يعيد لهذه الأمة - الأمة الإسلامية- رونق الإسلام الأصيل النابع من الحق والحقيقة ،الإسلام الذي أعز الإنسان ورفع من شأنه بعد أن استبيحت حرماته ، وبعد أن كان يعيش في ظل العبودية الباطلة ، ففي ظل الدمار الذي أحدثه آل أمية عاد الناس يرزحون تحت وطأة سلطة غاشمة لا تراعي ذمة أو ضمير فكيف تراعي الدين وهي أصل الفساد والضلال .
قد يسأل سائل من اي مكان خارج حدود الإسلام والتشيع عن سبب خلود هذه الثورة رغم مرور آلاف السنين ، رغم أن القائد والجنود قضوا جميعا فيها وكانت الغلبة من حيث العدة والعدد للطرف الآخر من المعركة وهم آل أمية ، لكن تلك الدماء التي سُفكت على أرض كربلاء كانت ومازالت تزلزل الارض تحت أقدام الظالمين ،تأفك اوثان الباطل لترسم للعالم أجمع طريق الحق، وكان حري بكل مسلم ان يعرف الاجابة، فالحسين عليه السلام كان يعلم أنه سيبذل روحه الطاهرة لأجل إحياء دين جده المصطفى صلوات الله عليه ، "اني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر... " °١.
والحقيقة الواضحة وضوح الشمس خلود ثورة الطف بخلود من استبسل وقدم دمه الطاهر قربانا لإحياء الإسلام دين الحرية والعدل،
ثورة الطف ذات القيم العليا والمبادئ الإنسانية لم تكن عبثية، بل هي مشروع إصلاحي سعى فيه سيد الشهداء إلى تصحيح المسار لكل فرد بأعتبار إن الإنسان هو الثروة الحقيقية ، فأذا كانت عقيدته راسخة كان المجتمع قويا ، ولهذا نرى كيف سعى بنو أمية إلى تدمير الإنسان لأنهم كانوا يخططون إلى سلب إرادته بالقوة والعنف والتعسف ، لتخور قواه وتضعف عقيدته، لكن سعيهم كان مدحورا لان الباطل مهما استمر سيندثريوما لذا من الحتمي أن تخلد هذه الثورة بخلود من نهض بها وقدم الغالي والنفيس لأجل صلاح الفرد والمجتمع:
- الحسين عليه السلام لم يكن يسعى لسلطة أو جاه فهو وبكل فخر سبط النبي الأكرم وإمام عصره ، فقد روي عن الرسول الاكرم )صلى الله عليه واله( " الحسن والحسين اماما حق قاما او قعدا وابوهما خير منهما "°٢ ، فليس من المعقول أن يقوم بإنجاز ما وهو يعلم علم اليقين انه سيقضي في هذه الحرب فينتظر منصبا أو جاها أو حتى مدحا .
-ثورة الحسين عليه السلام لم تكن ثورة لوقت محدد أو تخص افرادا معينين، بل هي ثورة ضد الباطل مهما اختلفت كيفياته وتخص البشرية جمعاء. 1
°١. بحار الانوار ٤٤: ٣٢٩ ، العوالم ، الإمام الحسين عليه السلام ١٧٩.
°٢. دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي، الجزء ١ ، ص ٣٧.
إن الإنسان إن كان مسلما أو لا ،هو محط الاهتمام والرعاية الإلهية، لذا فقد شملته الرحمة الإلهية بهدايته عن طريق إرسال الأنبياء لتعليمه وارشاده ،والحسين عليه السلام هو نفس الرسول الكريم فقد جعل نصب عينيه الاهتمام بالمسلمين وغير المسلمين منهم، فنرى الرجل والمرأة ، الكهل والشاب ، والطفل وحتى غير المسلم حاضرا يوم العاشر من محرم ، إذ كان من بين ابطال الطف شاب نصراني، فدى نفسه في سبيل الحق بعد أن أعلن اسلامه على يد الإمام الحسين عليه السلام.
- النتائج التي انبثقت بعد هذه الثورة هي نتائج مهمة ، تمخضت عن تبلور معطيات جديدة اثرت في الأمة الإسلامية ، فتوالت الثورات الداعية إلى الحرية بأسم الحسين عليه السلام ، ومقارعة كل قوى الظلم ، أهمها ثورة التوابين وثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وإن ثورته المقدسة أصبحت شعارا لكل من كان يريد النيل من الدولة الاموية ،وتلك الثورات والحركات كانت السبب الرئيس في تصدع الدولة الأموية، وسقوطهاالمبكر عام ١٣٢ه من قِبل العباسيين ، أو بمعنى آخر، لولا ثورة الإمام الحسين )عليه السلام( لما سقطت تلك الدولة، وبتلك السرعة.
- إن الثورة بمفهومها العميق تعني النهوض من السبات ، ونبذ كل المعتقدات الخاطئة التي منيت بها الأمة الإسلامية إثر حكم الطاغوت المتمثل بآل أمية.
لقد تجلت في شخصية الإمام الحسين عليه السلام مجموعة من الصفات:
• قوة الإرادة: إذ وقف الإمام الحسين عليه السلام في وجه الحكم الأموي، فأعلن رفضه لبيعة يزيد ، وانطلق مع قلة الناصر إلى ساحات الجهاد ، ليرفع كلمة الحق ويدحض كلمة الباطل ، ولم يهتم بالجيوش التي حشدتها الدولة الأموية، إذ أعلن كلمته الخالدة ،" ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما..." °١.
●وهذا إن دل على شي فإنه إشارة واضحة من الإمام الحسين عليه السلام
للبشرية جمعاء بالوقوف في وجه الظلم مهما استعظمت قوته.
•الاباء عن الضيم: فهو ابو الضيم الذي رفع شعار الكرامة والعزة،وقد خلد لنا التاريخ كلمته المشهورة يوم الطف التي تنبض بالعزة والكرامة:" ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجورطابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من نؤثرطاعة اللئام على مصارع الكرام"..°٢.
●الحسين عليه السلام رسم في ثورة الطف معالم العيش الكريم لكل إنسان ،وهو إشارة جلية إلى إرشاد الناس كافة لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة.
•الشجاعة: لم يشهد التاريخ أشجع من الإمام الحسين عليه السلام فقد وقف يوم عاشوراء موقفا ح ي ر الألباب، وأذهل فيه العقول، ولم ترهبه كثرة العدو ولا عدتهم،
●إذ إن الدفاع عن الأرض والعرض وإن كان الموت هو الثمن ، فأهلا بالموت الذي يضمن السعادة للشعوب، وقد تعلم الأحرار في كل العالم من الإمام الحسين عليه السلام وضحوا بحياتهم من أجل 2ازدهار بلادهم تيمنا بأسم من حمل مشعل الحرية وصدق في عهده مع الله عزوجل .
•الصبر: لقد تميز الإمام الحسين )عليه السلام( بالصبر على النوائب والمحن ،فكان صبره وموقفه الصلب يوم عاشوراء من أندر ما عرفته الإنسانية جمعاء.
١°. التحف ص ٢٤٥.
٢° .ابن حجر في الإصابة ج ٣ ص 205.
● وما الصبر قبال صبر الإمام الشهيد إلا قطرة في بحر، وهو الذي ألهم البشرية معنى الصبر في موقفه في تلك المعركة الغير المتكافئة ، إن هذه الملحمة الإلهية قدمت دروسا كبرى للانسانية على اختلاف مشاربها، أهمها تثبيت رسالة السماء ، ودعوات الأنبياء )عليهم السلام( وما جاؤوا به من قيم ومبادئ تسموبالإنسان ثم ما تجلى على أرضها من قيم وعبر ومعان تهز الوجدان الحي ، وتوقظ الضمير النائم ؛ لتبصره فجائع الواقع ، ولتدفعه بقوة إلى الوقوف بوجه الظلم والظالمين، وهي نهضة لكل الشعوب التي تريد التخلص من الظلم .
|