تُقبّل جبينَهُ سَجادتُهُ قائلةً: لله درّكَ ياعليّ.. فيردّ عليها قائلًا : أين لي من آهاتِ جدي عليّ ؟!...
كان الدمعُ حليفَهُ أينما حلّ (وسلاحه البكاء) ، وكأنّ الجدرانَ المتزمّلةَ به أخذت تتفطر من آهاتِه ، وأيّ آهاتٍ كانت تجرّها أنفاسُه!! .. إنّها آهات العشق الإلهيّ إنّها آهاتُ عليّ..
كان الليلُ ينتظرهُ بفارغ الصبر قبل النهار، والنهارُ واقفًا قد اندملت قدماه ينتظره متى ينجلي الليل ليراه ، بل كان كلّ شيء ينظرُ إليه وهو بين راكعٍ وساجد..
كان حزنُهُ الأكبرُ على ذبح أبيه 《حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟
فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشرة ابنًا، فغيّبَ الله عنه واحدًا منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ ، وكان ابنه حيًا في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي
وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟》[الخصال: ج2 ص518-519] ،
كان يبكي لذكريات الطف والسبي لحرائر بنات الرسالة اللاتي قد تركنَ اثرًا بليغًا في ذاكرتِهِ وجسده..
كان يبكي على أبيه فلا يأكل إلا وذكر الحسين أو يشرب حتى تذكرَ عطش الحسين حتى يملأ الإناءَ دمعًا ، فقيل له في ذلك ، فقال: 《وكيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي كان مطلقًا للسباع والوحوش»[بحار الأنوار: ج46 ص109] ، وكان يحثّ ويوصي بالبكاء على أبيه الحسين (عليه السلام)، لِمَا له من فضلٍ عظيمٍ عند الله ، فقال الإمام الباقر(عليه السلام): 《كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتى تسيل على خدّه بوأه الله تعالى في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوّأه الله منزل صدق ، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خديه من مضاضة أو أذى فينا صرف الله من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار》[ثواب الأعمال: ص83]
لذا كانت ثورة سيد الساجدين البكاء وما البكاء إلا سلاح المظلوم الذي أوصاه والده الحسين بنصرته قائلًا:《 يا بنيّ إياك وظلم مَنْ لا يجد عليك ناصرًا إلا الله》 [أمالي الشيخ الصدوق: ص182 المجلس 34 ح10] ، وقد أوصى بذلك ولده الباقر (عليه السلام) من بعده..
واجه زين العابدين أممَ الضلالة والطغيان بسلاح بكائه على والده الحسين (عليه السلام) في أدعيته وخطبه وكلامه ، نثر درره ودمعه في كلّ زمانٍ ومكانٍ ، ممّا زاد من هيجان بني أمية عليه التي لاتجيد إلا أفعال الجبناء من قتلٍ وسفكٍ للدماء كما فعلوا بعيالات أبيه يوم عاشوراء ، فهم لا يجيدون إلا الغدر من وراء الظهور وهذه أفعال أهل الغيّ والبغيّ والنفاق ، فلم يجد وليد بن عبد الملك (لعنه الله) إلّا أن يسقيَهُ السمَّ ، فنالَ بذلك شرفَ الشهادة التي كانت لهمُ عادة..
باتت بموته الأيتامُ واقفةً على عتبات الإنتظار ، تنتظرُ شبيهَ علي أبي الأيتام، ذلك الذي يطرقُ الأبوابَ ولايزيلُ اللثام، وهذه أفعال الكرام..
فارقت سجادتُهُ دموعَهُ ونعاهُ المحراب، ونزلت إلى مثواهُ الثريا ناعيةً سُمرتَهُ ، و بكاهُ النسيمُ الذي كان يشمُّ طلّتَهُ ، وذوى الممشوقُ في المعشوق وراحَ ليكملَ في دوحةِ القدسِ سجدتَهُ..
|