من الفتن التي بُلي بها أصحاب السلطة والمال وأصحاب المناصب الدنيوية والأخروية ،هو التملق أو الملق ، وهو لغة : الزيادة في التودد والثناء والدعاء، ورجل مَلِقٌ : يُعطي لسانه ما ليس في قلبه، وتقول : تملقه وتملق له فكلاهما صحيح.
وقد ورد النهي عنه في عدة أحاديث ، ونُسب إلى ضعف الإيمان وسوء الخُلُق .
ومن المعلوم بالوجدان أن الإنسان لا يتملق لأخيه من أجل غرض أخروي ، لأن الآخرة لا تُنال بالتملق للعباد ، كذلك ليست الآخرة بيد أحد من العباد ، وهذه من نعم الله تعالى علينا . إذن الدافع هو الحصول على غرض دنيوي من المٌتَملَق له ، حيث يظن المتملق أن الأسلوب الأمثل للحصول على مآربه هو التملق ، إذ يراه الأسلوب الأسهل والمناسب لنفسه والأقل كلفة والأكثر أثراً –هكذا يرى- فيتخذ هذا الأسلوب وان استدعى ذلك تقليب الحقائق .
وليس لكل فرد قابلية التملق والقدرة عليه ، إلا أن يكون لديه نقص معتد به في إيمانه ودنو في أخلاقه ، فإذا نزل الفرد في إيمانه استساغ التملق وسهل على نفسه ، يقول الرسول الأكرم : ( ليس من خُلُق الإيمان المَلَق) وعن الأمير : ( إياك والملق، فإن الملق ليس من خلائق الإيمان ) . فكما أن نزول مستوى الإيمان يصاحبه الحسد والحقد والغيبة وغيرها، كذلك يصاحبه الملق ، والعكس صحيح .
ومن جهة أخرى فمن دواعي التملق هي ثقة الفرد بما في أيدي الناس أكبر من ثقته بما في يد الرحمن جلّ جلاله ، ولو تملق للرحمن لأغناه عن الذلة للعباد . وسببه ضعف الإيمان وقلة الأدب.
والذي يُسهّل على الإنسان تملقه ، هو اعتقاده بأن من يتملق له اقل منه ذكاءً وأدنى فطنةً –وان كان يُظهر غير ذلك أو يتوهمه – حيث يرى أن المقابل يغتر بتملقه من الثناء الذي لا يعتقده بقلبه ، علماً أن الأغلب هو العكس ، فإن أكثر الذين تتملقهم الناس لا يخفى عليهم ذلك ، لأنه يدرك أن ما نطق به المتملق من الوصف والثناء لا ينطبق عليه ، كذلك أصبحت لديه خبرة من كثرة تملق الناس له – فأنت لست الأول!- فليس المرء جاهل بنفسه حتى يخدعه المَلَق ، إلا أن يريد هو أن يُخدع .
وللتملق أضرار عدة سواء للمتملِق نفسه أو المتملَق له ، ومن الأضرار التي تلحق المتملق:
أولاً : إن الملق يُدخل في الكذب والمبالغة وتقليب الحقائق وتزييف الأمور .
ثانياً : غالباً ما يُدخل الملق صاحبه في الذلة ، لأن التملق واقعاً هو أسلوب من أساليب التذلل ، وبالتالي فهو مُسقطٌ لشخصية المتملق وحاطّ من قدره .
ثالثاً : إن نجح في تملقه أو جاراه المقابل ، فإن ذلك سيزيد في دنوه أخلاقاً وإيماناً، حيث سيثبّت هذا الأسلوب في قلبه ويعتمده كأسلوب ناجح يحقق من خلاله مصالحه، فيتخذه لقضاء أكثر مآربه ، ويكون جزءاً من شخصيته من الصعب انفكاكه عنها .
رابعاً : إن المتملق إذا لم يحصل على غايته ممن تملقه أو صدر من ذلك الشخص ما يغضبه ، فسوف ينقلب ذلك التملق ذماً والثناء شتماً ، كما نراه الآن جهاراً نهاراً في كثير من الأشخاص –في عصر السرعة والتملق!- عندما تُضرب المصالح تنقلب الرجال ، لأن التملق لسان ملاء وقلب خلاء . والذي بدوره يسقط ما بقي من شخصية المتملق .
أما بالنسبة لضرره على الشخص المتملَق له :
فإن كان الشخص واعيا ومدركاً فهو بعيد عن الضرر ، إنما التخوف على الإنسان غير الناضج ، فإن التملق له يسبب له الغرور والزهو بأفعاله والتعالي ، لما يرى من تملق الناس بين يديه ونسبتهُ إلى ما لا يُنتسب له على وجه الحقيقة ، وكلما كثر الملق زادت نسبة الاعتقاد بنفسه والاعتداد بذاته ، حتى يصل إلى التفرد في التجبر والاستعلاء ، حيث أن الناس ترى فيه ما لا يراه هو في نفسه ، فيُصدّق الناس ويُكذّب نفسه ، يقول الأمير (ع):(كثرة الثناء ملق ، يُحدث الزهو ويُدني من الغرة )، بل قد يصل به الأمر – أعني المتملق له- إلى أنه ينزعج ممن يبين له حاله الواقعي ، بل ويراه واهما أو مبغضاً . وهذه من البلايا الجسام التي ساهمت في صنع الجبابرة .
إن الكل يعلم أن الوصول إلى أصحاب السلطة أو أصحاب المال غير مقتصر على أسلوب التملق ، بل لو أن الفرد الذي يريد التقرب إلى المقابل ،عمل الأعمال التي تنفع ذلك المقابل على وجه الحقيقة ، لتقرب له ونال الزلفى عنده بأسرع من التملق وأرسخ واثبت ، ويكون محموداً واضح السيرة عزيزاً في نفسه وفي عين غيره . يقول الأمير (ع):( إنما يُحبكَ من لا يتملقكَ ويُثني عليك من لا يُسمِعُك) فإن أسمعك فليس بثناء ، إنما ضواحك صفراء ومكامن غبراء.
وله المنة .
|