في هذه الاسطر سنطلعكم على وصية مهمة اوصى بها الامام الصادق عليه السلام عنوان البصري والتي تُعتبر ام الوصايا وطريق نجاة، والتي نؤكد على التمسك بها وحملها في الجيب وجعلها دستور عمل وخارطة طريق، لما تحمل من مضامين عالية ومؤثرة، وكان لهذه الوصية اثراً كبيراً على نفسي، اذ كنت دائم القراءة لها وعملت على طباعتها ووضعتها في جيبي، وكنت استخرجها في كل مكان لأخذ منها العضة والموعظة، كما وان هذه الوصية يوصي بها العرفاء تلاميذهم ان يعملوا بها ويحتفظوا بها في جيوبهم، فهي وصية شاملة لكل المطالب وجامعة لكل المضامين، وطريق عمل لمن اراد السير والسلوك الى الله عزوجل، وقد كان السيد علي القاضي يوصي طلابه بقراءتها في كل يوم.
وعنوان البصري رجل كبير متقدم في العمر قد أتى عليه أربع وتسعون سنة، كان يختلف (أي يرجع اليه ويأخذ منه) الى مالك بن أنس فأحبّ أن يأخذ عن الامام الصادق عليه السلام فلمّا ورد عليه قال له الامام عليه السلام: إِني رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار فلا تشغلني عن وردي وخُذ عن مالك واختلف اليه كما كنت تختلف اليه.
يقول البصري: فاغتممت، فدخلت مسجد الرسول(ص) وسلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد الى الروضة وصلّيت فيها ركعتين.
وقلت: أسألك يا اللّه يا اللّه أن تعطف عليّ قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به الى صراطك المستقيم، ولمّا عِيلَ صبري وضاق صدري قصدت جعفراً فلمّا حضرت بابه استأذنت عليه فخرج خادم له فقال: حاجتك؟
فقلت: السلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلاه، فجلست بحذاء بابه، فما لبثت إِلا يسيراً إِذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة اللّه، فدخلت وسلّمت عليه فردَّ السلام.
وقال: اجلس غفر اللّه لك، فجلست فأطرق مليّاً ثمّ رفع رأسه وقال: أبو مَن؟ قلت: أبو عبد اللّه، قال ثبّت اللّه كنيتك ووفّقك يا أبا عبد اللّه، ما مسألتك؟
فقلت في نفسي لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً، ثمّ رفع رأسه وقال: ما مسألتك؟
فقلت: سألت اللّه أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك، وأرجو أن اللّه تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد اللّه ليس العلم بالتعلّم إِنما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلاً في نفسك حقيقة العبوديّة، واطلب العلم باستعماله، واستفهم اللّه يفهمك، قلت: يا أبا عبد اللّه ما حقيقة العبوديّة؟
قال: ثلاثة أشياء، ألا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه مُلكاً، لأن العبيد لا يكون لهم مُلك، يرون المال مال اللّه يضعونه حيث أمرهم اللّه به، ولا يدبر العبد تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى به ونهاه عنه.
فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى مُلكاً هانَ عليه الانفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه، وإِذا فوّض العبد تدبير نفسه على مُدبّره هانت عليه مصائب الدنيا وإِذا اشتغل العبد بما أمره اللّه تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما الى المراء والمباهاة مع الناس.
فإذا اكرم اللّه العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا وابليس والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
قلت: يا أبا عبد اللّه أوصني، قال: اوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيّتي لمريدي الطريق الى اللّه تعالى، واللّه أسأل أن يوفّقك لاستعمالها،
ثلاثة منها في رياضة النفس.
وثلاثة منها في الحلم.
وثلاثة منها في العلم.
فاحفظها وإِيّاك والتهاون بها.
قال عنوان: ففرَّغت قلبي له، فقال:
أمّا اللواتي في الرياضة، فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إِلا عند الجوع، واذا اكلت فكل حلالاً وسمّ اللّه واذكر حديث الرسول: ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنه. فاذا كان ولابدّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفسه.
وأمّا اللواتي في الحلم، فمن قال لك: إِن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل له: إِن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إِن كنت ادقاً فيما تقول فاسأل اللّه أن يغفر لي، وإِن كنت كاذباً فيما تقول فاللّه أسأل أن يغفر لك، ومَن وعدك بالخناء فعده بالنصيحة والرعاء.
وأمّا اللواتي في العلم، فاسأل العلماء ما جهلت، وإِيّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتجربةً، وإِيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخُذ بالاحتياط في جميع ما تجد اليه سبيلاً، واهرب من الفُتيا هربَك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.
قُم عنّي يا أبا عبد اللّه فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي فإني امرؤ ضنين بنفسي، والسلام على من اتبع الهُدى.
يا لها من وصية رائعاً فالسلام على صادق العلوم يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
|