مرت قبل عدة ايام ذكرى رحيل جعفر ابو التمن ذلك الرجل الذي لايمكن للكلمات ان تحيط بذكراه ، واني لأعتذر عن تأخير نشر الموضوع لأسباب تتعلق بسوء الحالة الصحية .
جعفر ابو التمن هو محمد جعفر جلبي بن محمد حسن بن الحاج داود ابو التمن ولد عام 1881 في عائلة مسلمة عربية من بغداد حيث تتحدر من قبيلة ربيعة التي استوطنت منطقة الفرات الاوسط من العراق منذ الفتح الاسلامي اذ نشأ وترعرع جعفر في بيت جده الحاج داود تاجر الحبوب وخاصة الرز ، التمن ، المعروف والذي كان يملك مستودعا كبيرا يعرف بخان داود في سوق بغداد المركزي قرب سوق الصفافير ولذا لقب بابي التمن ، فيما كان يسكن بمحلة صبابيغ الآل ببغداد على الضفة الشرقية من نهر دجلة بعد ان هاجر والده محمد حسن الي كرمنشاه في ايران بسبب مشاكل عائلية تاركا زوجته الثانية واولاده تحت رعاية جدهم داود اما والدة جعفر فكانت زهرة الاطرقجي وهي من عائلة عربية بغدادية ثرية وشهيرة ومن انبل العائلات وكانت متدينة ذات نزعة نحو الخدمة الاجتماعية واهتمام خاص بالفقراء حيث كان جعفر شديد التعلق والاعجاب بها وكانت مصيبته كبيرة حينما توفيت عام 1893 نتيجة اصابتها بمرض الهيضة ( الكوليرا ) الذي اصابها بسبب اختلاطها بالفقراء لمساعدتهم ، وكان جعفر شخصية معروفة في اوساط بغداد الاجتماعية والتجارية والثقافية حيث عمل في حقل التجارة وجمع ثروة لا بأس بها من خلال تجارته بالحبوب والمواشي والابل وكذلك السفن الشراعية ، تزوج من ابنة عمه الحاج سلمان ورزق منها بثلاث بنات وثمانية ابناء توفي ستة منهم في مرحلة الطفولة ، واختار محمد جعفر ابو التمن لنفسه ستة مقلدين مختلفين وفي اوقات مختلفة من حياته وهم الشيخ محمد طه نجف وكاظم يزدي ومحمد سعيد الحبوبي والشيخ مرزا محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الاصفهاني والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، وحينما بدأ محمد جعفر ابو التمن حياته السياسية اختار محمد سعيد الحبوبي احد اصدقاء جمال الدين الافغاني ، كما ساعد جعفر ورافقه علي آل بزركان في تأسيس اول مدرسة بمعونة مالية من الحكومة العثمانية عام1908 وفي عام 1917 تم تأسيس لجنة تعليمية من قبل احد المصريين المعارين للتدريس في العراق تضم خمسة من وجهاء بغداد اختير ابو التمن من بينهم وتضم الاب انستاس ماري الكرملي وحمدي بابان وشكري الالوسي وابن عمه قاضي الشريعة الحاج علي الالوسي والشاعر جميل الزهاوي وكانت مهمة اللجنة استشارية ، تحت اشراف الانكليز لذلك اعترض ابو التمن على هذا الاشراف وقدم استقالته في حزيران 1919 لانه أصر على وجوب اعطاء اللجنة صلاحيات تنفيذية ، عاش ابو التمن بين عامي (1928 ، 1933 ) مرحلة سياسية مليئة بالانعطافات والتحولات التي لها أثرها في التاريخ السياسي للعراق ، إلا اننا لم نجده إلا رجلاً صلباً في مواجهة تلك التحولات ، تحدوه رغبة في تحقيق الاستقلال الوطني ، ولأجل ذلك جاءت مواقف ابو التمن معبرة عن أماني الشعب العراقي التوّاق إلى الحرية ، لذا عانى ابو التمن الامرّين من موقف بريطانيا المعارض لها ، وسياسة الحكومات المتعاقبة الخاضعة لإرادة بريطانيا ، فضلاً عن عدم مساندة اغلب الساسة العراقيين لفعّاليات ابو التمن ونشاطاته الزاخرة ببرقيات الاستنكار ومقالات الرفض والتظاهرات التي تصبو كلها إلى إجبار بريطانيا على الإيفاء بوعودها التي قطعتها للشعب العراقي ، وقد توالى فشل الحكومات العراقية في تحقيق آمال وطموحات ابو التمن وبقية أنصار المعارضة ، مثل حكومة عبد المحسن السعدون التي عبرت عن فشلها بانتحار السعدون ، الى جانب استقالة حكومة ناجي السويدي وحكومة نوري باشا السعيد وحكومة ناجي شو كت .
ان جعفر ابو التمن لم يعمل مع عناصر سياسية ولاءها مقترن بالمنصب والقرابة والعشائرية والقومية والطائفية ، بدلا من المصلحة الوطنية ، علماً أن ابو التمن وفي سبيل مصلحة بلده رفض عروضاً قدمت له لتبوء مراكز حكومية مهمة ، فضلاً عن رفضه للدعوة التي قدمتها له قيادات عشائرية ودينية وسياسية لترأس حزباً ً كانوا ينوون تشكيله ، لاعتقاده بان مثل هذه التوجهات ستضر بالوحدة الوطنية العراقية ، إلى جانب أنها ليست حلاً لمشاكل البلاد ، بل هي إذا ما نجحت فستؤدي بالبلاد الى الهاوية ، وفي الأول من تشرين الثاني عام 1933 إعتزل ابو التمن السياسة وتنحى عن منصبه كأمين عام للحزب الوطني وكقائد للمعارضة العراقية وهو يقول اضطررت والألم يملأ قلبي أن اعتزل السياسة وأنا واثق بأن التطورات في نهضات الأمم مثلنا قد علمتنا بأنها سوف تضطرنا إلى العودة متى حان الوقت للكفاح ، إن غيبة ابو التمن لم تدم طويلاً لنفس الأسباب التي دعته للعودة إلى العمل السياسي في السابق ، فضلاً عن ذلك قامت جماعة الأهالي بدعوة ابو التمن إلى رئاسة جمعية مكافحة الأمية التي كانوا ينوون تشكيلها ، وقد سميت هذه المجموعة بجماعة الأهالي نسبة إلى إصدارهم جريدة الأهالي عام1932، وابرز شخصيات تلك الجماعة : عبد الفتاح إبراهيم و عبد القادر إسماعيل و حسين جميل و محمد حديد وانظم إليهم في ما بعد كامل الجاد رجي ، وبإلحاح من عبد الفتاح ابراهيم قبل ابو التمن توليه منصب الأمين العام لجمعية مكافحة الأمية ، وهي جمعية ثقافية و فكرية تسعى إلى القضاء على الجهل و التخلف وبث الوعي الثقافي بين أفراد المجتمع العراقي ، لذا تمتع جماعة الأهالي بشعبية واسعة بين الأوساط الثقافية و الفكرية ، وقد كان جعفر يعلم أن هذه المجموعة ستكون ناشطة سياسيا إلى جانب نشاطها الثقافي ، وفي كانون الثاني عام 1934 قام جعفر بمعية عبد الفتاح إبراهيم وعبد القادر إسماعيل وكامل الجاد رجي ، بتنظيم حزب سري هو حزب الشعبية وقد اختير جعفر رئيسا له ، وقام الحزب بإصدار جريدة "المبدأ" التي ترأسها جعفر أيضا ، وأصبحت هذه الجريدة المنبر المعبر عن آراء وتوجهات هذه الفئة المثقفة من السياسيين ، من جهةٍ أخرى واجه ابو التمن وأصحابه العديد من التحولات والتغيرات الحكومية المتكررة ، ومنها حكومة جميل المدفعي وحكومة علي جودت وصولاً إلى حكومة ياسين الهاشمي ، وقد كان لجعفر موقفاً معارضاً لسلوك حكومة ياسين الهاشمي ووزير داخليته رشيد عالي باشا الكيلاني ، إذ قامت تلك الحكومة بشن حملة عسكرية ضد العشائر في الجنوب والفرات الأوسط ، بسبب موقفها المطالب باستقالة البرلمان وإقامة انتخابات جديدة ذات أسس صحيحة وسليمة ، كما عملت حكومة الهاشمي على إغلاق الصحف المنتقدة للحكومة لا سيما جريدة صوت الأهالي وجريدة المبدأ ، فضلاً عن اعتقال الرموز الوطنية المعارضة لسياسة الدولة ، هذه الأسباب وغيرها هي التي دعت ابو التمن وأصحابه إلى تغيير وسائلهم في مواجهة تسلط حكومة ياسين الهاشمي ، اتفق حكمت سليمان ، وهو عنصر فعّال في جماعة الأهالي ، مع بكر صدقي وهو قائد فرقة في الجيش العراقي ، على الإطاحة بحكومة ياسين الهاشمي عن طريق انقلاب عسكري يقوم به الجيش ، وتوفر له جماعة الأهالي الغطاء السياسي والشعبي ، قبل ابو التمن بالفكرة بعد أن تأكد له أن الجيش سيقوم بالانقلاب سواء قبل أم لا ، واجتمع جعفر ببعض قادة الجيش وحددوا الخطوط العامة للانقلاب وتشكيل الحكومة الجديدة ، دخل الجيش إلى بغداد في مساء 29 من تشرين الأول 1936 ، ليسقط حكومة الهاشمي ، وتم تشكيل الحكومة الجديدة مباشرة بعد الانقلاب ، وقد كانت برئاسة حكمت سليمان ، وقد اختير ابو التمن وزيراً للمالية وصالح جبر لوزارة العدل وناجي الأصيل للخارجية وكامل الجاد رجي للاقتصاد ويوسف عز الدين للمعارف وعبد اللطيف نوري للدفاع ، أما بكر صدقي فلم يتول أي منصب وزاري ، وأحتفظ بمنصب رئيس أركان الجيش ، في ما رفض كل من عبد الفتاح إبراهيم وعبد القادر إسماعيل الانقلاب لأنهما كانا ضد فكرة تدخل الجيش في السياسة ، وقد لاقت حكومة الانقلاب صعوبات جمة من أبرزها التدخل المباشر للجيش في عمل الحكومة ، فضلا عن اتهام القوميين لابي التمن وبعض جماعة الأهالي بالشيوعية ، الأمر الذي أثار غضب العديد من شيوخ العشائر على ابي التمن ، واتهام بكر صدقي وحكمت سليمان بعدم الولاء للعروبة ، لاسيما إن حكمت كان تركمانياً وبكر صدقي كان من القومية الكردية ، إلا إن ابو التمن لعب دوراً هاماً في رسم السياسة المالية والاقتصادية للدولة ، إذ اهتم بتوزيع الأراضي الزراعية ، محاولةً منه في حل مشاكل الفلاحين ، فضلاً عن بناء القرى العصرية وإقامة الجمعيات التعاونية لتطوير الريف وتحرير الفلاحين من استغلال مالكي الأراضي ، وقد أعلن جعفر عن رغبته في تحسين المستوى ألمعاشي للعمال من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية ، عن طريق رفع دخلهم وتقليل ساعات عملهم ، ونتيجة لتدخلات الجيش في إدارة شؤون الدولة ، لم يجد ابو التمن وبعض الوزراء الآخرين أي أمل في قدرة رئيس الوزراء على إيقاف التدخل السافر لبكر صدقي وأصحابه في إدارة الحكومة ، الأمر الذي قادهم في التاسع عشر من حزيران 1937 إلى تقديم استقالتهم من الحكومة ، وهم كل من ( جعفر ابو التمن وكامل الجاد رجي ويوسف عز الدين وصالح جبر) ، وقد كانت الفترة من استقالة ابو التمن إلى حين وفاته متميزة بالنشاط التجاري الشخصي ، فقد اشغل نفسه كلياً في توسيع تجارته للمنسوجات واستخراج زيوت الطبخ ، وقد انتخب ابو التمن رئيساً لغرفة تجارة بغداد عام 1935 ، استمر جعفر في الفترة الأخيرة من حياته بالحوارات والمناقشات في جميع المجالات ، إذ كان يستقبل وجهاء بغداد في يوم الأربعاء من كل أسبوع ، وقد كانت آراء ابو التمن المتفاعلة مع الحدث تلقَ ترحاباً واحتراماً من قبل الجميع ، وبقي رجلاً متفاعلاً مع الأحداث حتى توفي في 20 / 11/ 1945 اثر انفجار دموي في الدماغ ، وقد كانت آخر كلماته انه كان آسفاً لأنه لم يعش ليرى القوات البريطانية تغادر الأراضي العراقية ، ولوفاته عم الحزن شوارع بغداد والعديد من المدن العراقية الأخرى ، وتكونت لجنة في بغداد من ممثلين عن الاتحادات العمالية والمنظمات المهنية والأحزاب السياسية للقيام بحفل تأبيني يليق بمكانة ابو التمن وتاريخه ، وقد حدثت اجتماعات في المدارس والمعاهد والمنظمات وغرف التجارة للرثاء والمواساة ، دفن جعفر في النجف بمراسيم دفن مهيبة تدل على شعبيته الواسعة كقائد سياسي وطني من طراز خاص .
khalidmaaljanabi@yahoo.com
|