ما زالت دول الشرق الأوسط متخلفة اقتصاديا ومن بينها العراق. فلو بحثت في بيتك , وهنا اعني البيت العراقي, فسوف لن تجد سلعة واحدة مصنوعة وطنيا . السجاد إيراني , اثاث البيت مصري , أدوات المطبخ صنعت في الصين , التلفزيون ماليزي , التليفون كوري جنوبي, , ملابس الرجال تركية , وملابس النساء سورية او تركية او صينية . ولو دققت بوجبة طعام الظهر لوجدت ان الرز من انتاج تايلاند , الفاصوليا من انتاج الصين , اللحم من انتاج الهند , الخضر والفواكه من انتاج ايران او الأردن او تركيا . بل وصل الحال الى استيراد حتى التمر من السعودية وقناني ماء الشرب من الأردن و تركيا والسعودية . ووصل الحل أيضا , ان تستورد مسجلات ترتيل القران الكريم , سجادة الصلاة , الدشداشة العربية , و البدلة الكردية من الصين . نعم , اخر الاخبار ان هناك تجارة رائجة للبدلات الكردية المستوردة من الصين في إقليم كردستان .
ففي تقرير مطول على " صوت العراق" يقول نقلا عن خياط للملابس النسائية الكردية " حتى أواسط العام 2014 كانت سوق خياطة الأزياء الكردية النسائية مزدهرة جدا , وخاصة خلال فترة مناسبات اذار ونوروز . كنا ومن نقوم بخياطة حوالي أربعين بدلة كوردية نسائية في اليوم الواحد , ورغم اننا كنا أربعة اشخاص , الا اننا لم نكن نستطيع مجاراة الطلب على تلك الأزياء , وكنا نتوقف عن قبول توصيات الزبائن قبل حلول عيد نوروز بشهر , لكننا الان ورغم بقاء أيام قليلة تفصل بيننا وبين نوروز , لا زلنا نتلق طلبات الزبائن , بل ونرحب بها , ولا نقوم بخياطة من عشر بدلات في اليوم الواحد".
سوق خياطة الأزياء الرجالية الكردية ليس احسن من سوق خياطة الأزياء النسائية . احد الخياطين يصف حال السوق بالقول " فيما مضى , كنا نعتذر عن تسلم توصيات من زبائننا قبل حلول نوروز بأربعين يوما , وكنا خلال تلك الفترة من السنوات الماضية ننجز 500 بدلة كوردية رجالية , اما في هذه السنة , فما زلنا نستلم توصيات الزبائن , التي لم تتجاوز حتى اليوم 150 بدلة , هذا في حين ان لدينا زبائننا الدائمين , وهذا الفصل يعد موسم الذروة في عملنا ". و يقول صاحب محل الخياطة " كان لدي في الماضي أربعة صناع , لكن كساد السوق اجبرني على تسريح ثلاثة منهم".
ربما يفهم القارئ ان سبب تدهور سوق الخياطة في إقليم كردستان هذا العام بسبب الخصام السياسي بين بغداد واربيل وبسبب انقطاع رواتب موظفي الإقليم , ولكن هذا جزء بسيط من المشكلة . المشكلة الكبرى هو استيراد الأزياء الكردية المتصاعد من الصين . تجار بيع الأزياء الكردية الجاهزة راضون جدا عن حال السوق , ويقولون ان سوقهم مزدهر هذا العام , فقد استورد كامران يوسف وهو تاجر من مدينة أربيل 8800 بدلة كوردية جاهزة من الصين بمناسبة احتفالات اذار ونوروز لهذا العام , ويقول " السوق جيد جدا مع قرب احتفالات اذار ونوروز هذا العام , وقد قمت ببيع القسم الأكبر من بضاعتي خلال فترة قصيرة ". يوسف استورد في ربيع الماضي 5800 منها لكن هذا العام اضافه 3000 بدلة الى الكمية التي استوردها العام الماضي , وتمكن من بيعها سريعا.
لا عيب في التجارة . البشرية بدأت بالتجارة منذ الاف السنين والسبب بسيط هو ان الموارد الطبيعية ليست موزعة بالتساوي بين الأمم . بلد له فائض في انتاج القمح وبلد اخر لديه فائض بصناعة السيوف , وهكذا يسد البلد المصنع للسيوف جوعه من القمح عن طريق التجارة , وفي هذه الحالة يتم تبادل السيوف بالقمح. قسمة عادلة متساوية .
ولكن المشكلة ان التجارة غير عادلة ولا متساوية في الشرق الأوسط . فبينما تستورد دول الشرق الأوسط كل شيء , بضمنها مواد اكلة العشاء و أدوات عبادة ابناءه ( سجادة والسبحة والعباءة والدشداشة) , واغلب ما تحتاجه بيوتهم , فان المجتمعات في الشرق الأوسط لا تصدر شيء عدا مادة النفط . وبالمناسبة فان النفط ليس انتاج وانما استخراج , وفي اغلب الاحيان يتم استخراجه بواسطة شركة نفط اجنبية . بكلام اخر النفط ليس مصنوع عربي وانما وجده الله في الاراضي العربية , وبذلك ان غاب العرب من الخليج الى المحيط سوف لن يفقد العالم شيء سوى سوق كان كبيرا يسوق له السيارات والملابس و الاثاث والمنتوجات الزراعية والحيوانية .
ما مصير امة تستورد 95% من حاجاتها الداخلية ؟ الموت المحقق . لماذا نجحت المقاطعة الاقتصادية العالمية ضد العراق وفشلت مع دول أخرى ؟ لان العراق كان يعتمد على 70% من غذائه من الاستيرادات وتشكل صادرات النفط 95% من ايراداته المالية . وبذلك يصبح من السهل جدا القضاء على بلد مثل العراق. نتائج المقاطعة ضد العراق كانت موت ما يقارب نصف مليون انسان بسبب الجوع وقلة الادوية , هروب حوالي 3 ملايين عراقي من اجل العثور على عمل خارج العراق, تضخم مالي لم يشهده العالم الا المانيا في الحرب العالمية الثانية , ودخل مواطن سنوي اقل من دخل فلاح هندي.
الان , تعرف لماذا لم يستطع إقليم كردستان مقاومة الحصار عليه بسبب استفتاء الانفصال . ولماذا لم يستطع دفع رواتب موظفيه ؟ ولماذا أصاب الركود الاقتصادي الإقليم ؟ ولماذا لم يستطع الاف من الشباب الكردي العثور على عمل يناسب طموحهم ؟ الإقليم اتبع نفس النموذج الاقتصادي في الشرق الأوسط , بيع النفط وصرف موارده على المواد الاستهلاكية وبذلك لم يشعر بالحاجة لتطوير القطاع الزراعي والصناعي . كل من زار الإقليم عرف ان العمارات السكنية العالية تجمعت في مراكز المدن , بينما ترك الريف الكردي يعاني من الفقر والتراجع والهجرة .
لقد اثبتت التجارب العالمية ان التجارة بين الشعوب ظاهرة صحية , ولكن يجب ان لا تكون على حساب التنمية الاقتصادية لهذه الشعوب . لقد اثبتت التجارب العالمية ان الشعوب التي تستورد اكلها وازياءها من الخارج , شعوب تعبانة , مغلوب على امرها , تعيش على الهامش , لا احد يستمع لها , حقوقها مغتصبة وبالتالي تنحدر نحو الانحدار والضمور .