لا تعنيني كثيرا متابعة الخطابات السياسية التي يلقيها الساسة في المناسبات التي تقتضي منهم ذلك مهما حاولوا تزويق مفرداتهم وتنميق عباراتهم وترقيعها بالبلاغة وتأطيرها بمصطلحات يحاول من خلالها لفت الانتباه والتغاضي عن حقيقة الواقع السيء الذي يعيشه المواطن الذي يستمع، او يظن السياسي، انه يستمع له .
فالحقيقة تبقى وراء نصوص الخطابات وخلف العبارات وتتعدى المفاهيم وتقفز على مساحاتهم المكشوفة، وتضل سابحة ، سواء علموا بذلك ام جهلوا، في الالاعيب اللغوية على حد تعبير فتجشتاين، فتبقى هنالك فراغات في هذه الخطابات تكشف مدى بُعد هذا السياسي وتياره وحزبه عن مايجري في الواقع. وفي هذا الاتجاه لانجد انه حينما تفشل الافكار فان الانسان يخترع اللغة كما يقول مارتن فيشر بل حينما يفشل الاداء الواقعي فان الانسان يعوضه باللغة والبلاغة.
هذا السمة التي تنسحب على مجمل الخطاب السياسي العربي تأتي في مقابل غياب واضح للتطبيق الحي العملي للمبادئ التي تتخلل هذه الخطابات التي تتعكز على المركب اللغوي لا المنجز الواقعي والبناء الوجودي البراغماتي، بلغة وليم جيمس ، الذي لايشك المواطن في اثره وامتداد الافقي والعمودي في الحياة المعاشة.
ويأتي خطاب السيد عمار الحكيم الاخير، او بمعنى ادق المقطع الذي انتقده فيه، والذي القاه الجمعة الماضية في احتفالية الذكرى التاسعة والعشرين لتأسيس المجلس الاعلى كنموذج للخطابات السياسية التي تتعكز على المفردات والعالم اللغوي اكثر من اعتمادها على فضاء الواقع الحي وبالتالي لانخرج من هكذا خطاب بنتائج واقعية ملموسة تُعلل ماحدث بدقة وتفسر ماجرى بواقعية.
مضامين عديدة وكثيرة جاءت في خطاب الحكيم، وقد يُتاح لي العودة لها بشيء من التحليل لاحقا، ولكن اكثر ما اثار انتباهي فعلا في خطاب الحكيم عبارة مهمة تتعلق باسباب تراجع المجلس الأعلى سياسيا وتضاءل شعبيته وعدم حصوله على مقاعد برلمانية في انتخابات 2010 تتناسب مع حجمه وتاريخه ووضعه السياسي والإمكانيات المادية والإعلامية والتنظيمية المتوفر لديه.
وهو الامر الذي ادى الى فقدانه سمة كونه لاعبا محوريا في الساحة السياسية كما عهدناه في زمن الراحل السيد عبد العزيز الحكيم رحمه الله، حينما كان المجلس رقما صعبا في البرلمان العراقي والحكومة ولا يمكن ان يُسن قانون او يمر تشريع من غير ان يكون ممهوراً بموافقة او أمضاء المجلس.
لابأس طبعا، وقبل التعرض لتعليل الحكيم لأسباب تراجع المجلس، ان يعترف الحكيم بان المجلس قد تراجع وان قياداته " انصتت باهتمام الى نصائح وملاحظات طيف من الاصدقاء والحلفاء في اعادة تقييم لادائه خلال السنوات الماضية" كما يقول احد قياديي المجلس، وقد اكد ذلك الحكيم ايضا، ولو على نحو لايخلو من الحبكة في الصياغة، بان" المجلس الاعلى تعلم ان ينحني معتذرا عن اخطائه لانه يرى ان الانحناء والاعتذار عن الأخطاء هو قمة الكبرياء".
ولان الحكيم لم يستمع لكيمبرلي جونسون حينما قال " لاتدمر اعتذارك بعذر غير مقبول "فانه قد فعل ذلك حينما قام بتعليل اسباب تراجع المجلس على نحو غير صحيح البته ، وقد تجسد ذلك بقوله " أن المجلس الاعلى قد دفع ضريبة كبيرة حينما لم يجعل المواقع والمناصب اولوية اساسية من اولوياته وانما ركز على رؤيته الإستراتيجية في بناء دولة المؤسسات والمواطن والقانون على خلاف العديد من الإطراف ممن جعل المواقع هدفا أساسياً في حركته السياسية".
الخطا الواضح في تعليل الحكيم والخطأ الجلي في تشخيصه لحالة التراجع يعود الى شيئين مهمين:
الاول: عدم واقعية المقدمة التي وضعها الحكيم في تحليله وهي ان المناصب لم تكن اولوية اساسية من اولويات المجلس فقد كان اغلب المحافظين في جنوب العراق تابعين له وقد تسلم اغلب قياداته مناصب بعد سقوط نظام صدام ناهيك عن حقيقة ان لايوجد حزب او تيار عراقي لايسعى الى المناصب او ان المناصب ليست من اولوياته.
الثاني: فصل الحكيم بين المنصب او الموقع من جهة وعملية بناء الدولة من جهة اخرى، فالمجلس، كما يبرر الحكيم بصورة خاطئة، سعى وركز على " رؤيته الاستراتيجية في بناء الدولة" ولم يركز على المناصب والمواقع، في حين ان الحكيم يعلم بصورة اكيدة ان الرؤية الاستراتيجية وعملية بناء الدولة لاتتم الا بواسطة مسؤول له موقع او منصب يستطيع من خلاله نقل رؤيته وافكارة الى حيز التطبيق والا مافائدة ان يمتلك حزب ما او تيار سياسي رؤية سياسية ولا يمتلك منصب يمكن له تنفيذها !
انني لا اشك ابدا ان هنالك رغبة وارادة لدى الحكيم وقيادات المجلس لتلافي ماحدث من تراجع للمجلس على ارض الواقع، فنقد الذات واعادة قراءة مجريات ماحدث والكشف عن اسباب الخلل وتشخيصها بصراحة يمكن ان يؤدي ذلك الى نتائج ايجابية قد تظهر ثمارها في الانتخابات البرلمانية القادمة او في انتخابات مجالس المحافظات خصوصا مع حالة الشلل السياسي التي تضرب العملية السياسية في وقتها الحالي.
alsemawee@gmail.com |