تعريف النفس والروح ليس بالأمر الهيّن، إذ الكلام في حقيقتهما سر من الأسرار التي لا تتحملها او تصل إليها كل العقول، فهذه المسألة من معضلات المسائل ولكن كلٌ يعطي على قدر ما يحمل.
النفس تحتمل جانبين ، جانب مادي وهو ما يُطلق عليه النفس السائلة ، وهذه النفس تموت وتُقتل كما قال تعالى : (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) . او كما قال تعالى : (واقتلوا انفسكم ذلك خيرٌ لكم) ، او قوله : (فمن قتل نفسا). وقتل النفس طرقه كثيرا احدها سفك دمها.
ونفسُ الإنسان هي الجزء الّذي خاطبه القرآن الكريم والمكلّف دائماً في الأمور، والنّفس هي الذّات، وهي الأساس في الإنسان، ودليل ذلك ما جاء في كتابه تعالى: (اليوم تُجزى كلُ نفسٍ بما كسبت ) غافر: 17
والجانب الثاني متداخلة بين الروح والجسد ، ولكنها نحو المادة اقرب فإذا كانت النفس اقرب إلى الروح كانت نحو التقوى ، وإذا قربت من الجسد خرج منها فجورها والرابط بينهما الشهوات والأهواء كما قال تعالى : (ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها).
وكذلك هذه النفس لربما تكون في بعض نواحيها أمارة بالسوء كما قال يوسف (ع) : (ان النفس امارة بالسوء).
وللروح سيطرة على النفس وليس العكس كما يقول تعالى : (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) . فمن الذي نهى النفس عن الهوى ، هل هو البدن المادي؟ كلا ، لأن البدن المادي يتحرك بالروح ، والنفس تقع ما بين الروح والجسد. فهي وسيلة الموائمة بينهما في الفعل والإرادة، وهي التي تميل مرة إلى الروح فتندم وتلوم نفسها كما يقول القرآن : (لا اقسم بالنفس اللوامة) ، ومرة تميل إلى الجسد فتأمر بالسوء كما تقدم قال يعقوب (ع) : (بل سولت لكم أنفسكم امرا). أو قوله : (كنتم تختانون انفسكم). وقريب منه قول التوراة في سفر يشوع بن سيراخ 6: 4 (النفس الشريرة تهلك صاحبها).
وأما الروح (1) فإنها من امر الله تعالى ومُنعنا من السؤال عنها أو تقحّم أسوارها، كما يقول تعالى : (يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم إلا قليلا).فالروح سرٌ من الأسرار تحتاج إلى علمٌ خاص لم يتوصل إليه احد لحد الآن ، ولكن النفس ممكن التعامل معها لأنها تارة تشير إلى البدن وتارة أخرى إلى القوة المحركة للبدن حيث يتحول الطعام إلى طاقة فاعلة لحركة الجسم (النفس) فإذا كان الطعام حلالا تحركت النفس نحو عمل الخير ، وإذا كان الطعام فاسدا كانت أمّارة بالسوء.والعلم المتعلق بهذا الجانب يُطلق عليه (علم النفس). لأنه من السهولة معرفة نوايا النفس من خلال ما يصدر من الجسد من حركات واشارات.ولعلنا نستفيد من قوله تعالى (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) . فجعل العين طريق لمعرفة نوايا القلب.
والروح نوعين ، الأول : روحٌ بذاته كما يقول تعالى : (نزل به الروح الأمين) . او قوله : (يوم يقوم الروح والملائكة صفا). وهذا الروح يُلقيه الله على من يشاء من عباده فهو مكرمة إلهية يحصل عليها من امتلك صدق النوايا : ( يُلقي الروح من امره على من يشاء).
وفي تفسير آخر وهو النوع الثاني ، متى ما كانت الروح غير داخلة في الجسم فهي (روح) . ومتى ما دخلت في الاجسام فهي (نفس) مثل قوله تعالى : (ولا تُخرجون انفسكم من دياركم). او قول الملائكة للانسان في ساعات الاحتضار : (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا انفسكم اليوم تُجزون عذاب الهُونِ). ومن هنا قال تعالى : (كلُ نفس ذائقة الموت) . ولم يقل : (كل روح ذائقة الموت). فعبّر عنها بـ (التذوّق) لأن الروح لا تموت لأنها من أمر الله (قل الروح من امر ربي). وهو الذي يسترجعها كما نقرأ في سفر الجامعة 8: 8 و 12: 7 (ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح، ولا سلطان على يوم الموت فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها).
في اليهودية واستنادا إلى كتاب كبالاه الذي يعتبر الكتاب المركزي في تفسير التوراة فإن الروح تنقسم إلى 3 اقسام :
الأول : نفيش : (النفس) وهي الطبقة السفلى من الروح وتربط بغرائز الإنسان الجسدية وهو موجود من لحظة الولادة.
الثاني: روخ : وهي الطبقة الوسطى من الروح والمسؤولة عن التمييز بين الخير والشر وتنظيم المبادئ الأخلاقية.
الثالث: نيشامه : وهي الطبقة العليا من الروح وهي المسؤولة عن تميز الإنسان من بقية الكائنات الحية.
وعلى ما يبدو فإن الفيلسوف سيغموند فرويد قد استعار هذه التعريفات الثلاث فوضع نظريته في لللاوعي الذي قسمه فرويد إلى الأنا السفلى والأنا والأنا العليا.وهي نفسها النظرية الحديثة : الماء والتراب والنار التي يؤكدها القرآن الذي يقول بان الانسان خلق من ماء وتراب ثم جعله طينا اصلصله بالنار.
وفي المسيحية فإن الروح ليس لها علاقة بالنفس : (يعتقد البعض ان كلمة «روح» هي مرادف لكلمة «نفس». لكنّ هذا الاعتقاد خاطئ. فالكتاب المقدس يُظهر بوضوح ان كلمتَي «روح» و «نفس» تشيران الى شيئين مختلفين). (2) المفكر المسيحي أورليس أوغسطينس اعتبر الروح مادة خاصة وفريدة غرضها التحكم في الجسد.وتتفق المسيحية مع اليهودية في أن الانسان يتكون من (جسد ونفس وروح).(3) ومن هنا انبثقت عقيدة الثالوث.
وفي اعتقادي ان الروح غير النفس ، الروح سامي وهو خاص للانسان العاقل المفكر ، والنفس مشتركة بين الانسان والحيوان. وهذا ما يراه فلاسفة الاديان الكبرى ومنهم القديس يهوذا في رسالته، فيقول عن الأشرار إنهم (نفسانيون لا روح لهم).
وحسب الكتاب المقدس فإن الله نفخ في أنف الانسان (نسمة الحياة) كما نقرأ ذلك في سفر التكوين 2: 7(وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية). فحسب الكتاب المقدس فإن الله نفخ في أنف الانسان فأصبح نفسا حية متحركة اي متنفسا ولكن لم تلجه الروح بعد ، ومن هنا فإن خطأ آدم في الاكل من الشجرة المحرمة ، إنما جاء وآدم لم يمتلك روحا بل نفسا والنفس تخطأ حسب تعبير الكتاب المقدس وهي حالة مشتركة بين الانسان والحيوان وهي التي تقف وراء الغرائز والشهوات ولما كانت وحدها في البداية في جسد آدم تاقت إلى الأكل ، ولكن عندما وضع الله الروح في جسد آدم اصبح مفكرا فاعلا وعرف خطأه الذي ارتكبه في حالته (النفسية) الأولى فاستغفر واعتذر، فغفر الله له.
والانسان لا يستطيع اخراج روحه ولكنه يستطيع ان يقتل نفسه ويُخرجها ولذلك قال تعالى : (فاقتلوا انفسكم). ولم يأذن الله تعالى بقتل النفس إلا في موارد حددها وهي (الشهادة) من أجل المُثل العليا والقيم الرفيعة السامية. وبما أن النفس رابط بين الروح والجسد فإذا تم قتلها خرجت الروح أيضا. كما في نظرية الكهرباء والسلك والمصباح. الكهرباء هي الروح ، والرابط بينها وبين المصباح هو السلك فيتفاعل المصباح مع الإثنين ليُنتج فعلا (الضوء).
والنفس ليست شكلا واحدا بل عدة أشكال كما قال الامام علي عليه السلام حينما سأله الأعرابي عن النفس فقال (عليه السلام): (أي الأنفس تسأل؟ فقال: يا مولاي هل النفس أنفس عديدة؟ فقال: نفس نامية نباتية، وحسية حيوانية، وناطقة قدسية، وإلهية كلية ملكوتية...). والأخيرة هي المعنية بقول الله تعالى : (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
في رأيي ان عذاب الجسد يكون مع النفس وليس الروح ، حيث يُغادر الروح إلى ربه ، وتبقى النفس في القالب الطيني تدخل معه القبر ويُحاسب عن طريقها والسؤال موجه لها دوما.
النفس تتشكل من كثير من الميول والرغبات والاماني وغيرها من متعلقات البدن المادي.وهو المقصود من قول أمير المؤمنين : (نفس نامية نباتية ، وحسية حيوانية). بل هم كالأنعام. وهي سبب هلاك الانسان بميلها وراء رغبات الجسد المادية ومتطلباته الحياتية، وهي وسيلة الكسب المادي.
ومن هنا اعتبرت التوراة النفس شيئا ماديا ــ نفس نامية نباتية ــ يسمن ويجوع كما نقرأ في سفر الأمثال 11: 25 (النفس السخية تسمن والنفس المتراخية تجوع كل تعب الإنسان لفمه، ومع ذلك فالنفس لا تمتلئ).انظر أيضا سفر الجامعة 6: 7.
واما قوله : (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) . فقد كان ذلك وآدم بعده سماوي الطبع لم تلج روحه بعد إلى نفسه وجسده وقوله سويته اي وضعت في عامل الحركة والنشاط النفس. وقد قال بعض العلماء أن النفس السائلة هي الدم الذي يجري في عروق المخلوقات وهذا ما ايده الانجيل حيث يقول في سفر التثنية 12: 23 (لكن احترز أن لا تأكل الدم، لأن الدم هو النفس) . وقالت به التوراة أيضا كما نقرأ في سفر اللاويين 17: 11(لأن نفس الجسد هي في الدم). ولذلك قيل للمرأة بعد الولادة (نفساء) نسبة إلى سيل دمها.
والنفس من امر الله تعالى أيضا وهو القادر على سلبها من المخلوقات كما يقول تعالى : (الله يتوفى الانفس حين موتها). اي يسترجعها حين انتهاء دورها في حركة الجسم وتشغيل المخ وغيره من الاعضاء. والنفس ثلاث انواع : (النفس اللوامة ، والنفس الامارة بالسوء ، والنفس المطمئنة). وكل هذه الحالات يتم صناعتها في داخل الانسان نتيجة لتفاعل النفس مع الجسد في تعامله المادي . وذلك تبعا لحسن اوسوء استخدامه لإدراكاته.
اما النفس فهي التي تغادر الجسد من دون أن يموت الجسد كما في النوم وكذلك تسافر في عالم الاحلام ، وتبقى الروح في الجسد لأنها وسيلة الربط الاسمى بينهما. (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى) قال الإمام الباقر عليه السلام: (ما من أحدٍ ينامُ إلّا عرَجت نفسُه إلى السّماء، وبقيتْ روحُه في بدنه، وصار بينهما سببٌ كشُعاع الشّمس... فإنْ أذن اللهُ في قبضِ الأرواح أجابتِ الرّوحُ النّفسَ، وإنْ أذِن اللهُ في ردّ الرّوح أجابت النّفسُ الرّوح). يقول الحديث: (ان الله قبض ارواحكم حين شاء وردها عليكم حيث شاء ). إن علم الروح لم يحط فيه إلا الله تعالى. وإذا قيل أن العلم الإنساني يستطيع رد الروح فهذا مُحال ، ولكن الطب يتعامل مع حركة النفس التفاعلية ، فإذا خرجت الروح انهار كل شيئ.ولكن الطب يستطيع ان يُبقي النفس عن طريق الاجهزة ولكنها تعمل بصورة آلية وليست روحية.
وختاما اقول ، ان الروح و النفس في المرحلة الأولى كلاهما مصيره الموت ، وذلك لقول الله تعالى : (كل شيء هالك إلا وجهه).ولكن في النفخة الثانية تعود الارواح إلى الاجساد التي تدخل الجنة ، وتلج الانفس إلى الاجساد الخاطئة لتتعذب في جهنم كما في نص واضح قال فيه السيد المسيح بأن الروح أسمى من النفس وهي التي ترجع إلى الله ولكن النفس هي التي تُصاحب الجسد إلى النار وتجعله متحركا يشعر بالآلام الفضيعة للعذاب لأن النفس شريكة الجسد في اعماله فقال يوصي حوارييه كما في إنجيل متى 10: 28 (ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم).
واما علميا فعندما يتحدث علماء العصر الحديث عن الروح خارج السياق الديني،فيما يُسمى بـ (الواقعية المنهجية) فإنهم يتعاملون مع الروح على أنها العقل. ففي كتاب ) الفرضية المذهلة لفرنسيس كريك (فإن كريك أخذ على عاتقه أنّ المرء يمكنه تعلم كل شيء معروف عن الروح البشرية عن طريق العقل لأن الروح هي القوة المحركة للعقل ومن دونها يصبح العقل كتلة من التلافيف الجامدة فالعقل هو البداية، ومن ثم، قد يكون للعلوم العصبية صلة بفهم الإنسان لماهية الروح). ولربما هذا القول هو مصداق الحديث :( (من عرف نفسه فقد عرف ربه). (4)
المصادر:
1- الروح عبارة عن مصطلح ذي طابع ديني وفلسفي يختلف تعريفه وتحديد ماهيته في الأديان والفلسفات المختلفة، ولكن هناك إجماع على أن الروح عبارة عن ذات قائمة بنفسها، ذات طبيعة غير ملموسة. ويعتبرها البعض مادة أثيرية أصلية من الخصائص الفريدة للكائنات الحية. استنادا إلى بعض الديانات والفلسفات فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في عالم الموجودات وهو أساس الإدراك والوعي والشعور. وتختلف الروح عن النفس حسب الاعتقادات الدينية فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعين ويرى البعض الآخر إن النفس قد تكون أو لا تكون خالدة ولكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد.
2- المفسر المسيحي في تفسيرة للروح تحت عنوان (ماذا يعلّم الكتاب المقدس حقا؟) النفس والروح المعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين.
3- انظر كتاب من هو الإنسان؟ البابا شنوده الثالث فصل : مما يتكون الإنسان؟ جسد وروح ونفس.وعلى ما يبدو فإن البابا شنودة أخذ هذه العقيدة من بولص الذي يقول في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي 5: 23 (ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم).وهنا يتبين التأثير اليهودي لثقافة بولص حيث ترى التوراة بأن الانسان يتكون من جسد ونفس وروح.
4- كتاب The Astonishing Hypothesis أو الفرضية المذهلة لفرنسيس كريك، عنوان فرعي هو البحث العلمي عن الروح.
|