اطلالة عابرة على وضع المدينة المنورة في اواخر ايام النبي ص وما بعدها تضعك أمام ظاهرة ملفتة تتطلب مزيد عناية وبحث في طبيعة مجتمع الدولة الاسلامية عامة ومجتمع المدينة المنورة خاصة إذ ما إن شارف النبي ص على الرحيل حتى دخلت المدينة في حالة من الاضطراب والفوضى نقل لنا التاريخ مشاهد متعددة منها وأغفل أكثرها لدواع سياسية او غيرها ومن جملة تلك المشاهد تعطيل جيش اسامة من دون مبرر رغم دعاء النبي ص على من تأخر عنه ،وفي مشهد آخر حال أحدهم دون تدوين النبي ص لوصيته بل اتهمه بالهذيان ،واما المشهد الثالث فاجتماع القوم في السقيفة يتنازعون على السلطة ونبيهم لمَا يُغَسّل بعدُ ومن ثم خرجوا من السقيفة يأخذون البيعة من كل من صادفهم في الطريق الى المسجد فإن أبى خبطوه بأيديهم وربما بسيوفهم ،وليس آخر المشاهد إتهام كل قوى المعارضة بالردة تمهيدا للقضاء عليها بدم بارد. هذه المشاهد وغيرها الكثير تفصح عن عدم رسوخ القيم والمبادئ الاسلامية في نفوس الناس حينها فضلا عن النفاق الذي خمد أواره في حياة النبي ص خوفا مرة وطمعا أخرى وعن هذا وذاك أخبر القرآن سلفا اذ صدح (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
الهجوم على دار الزهراء عليها السلام يجب أن يُقرأ ضمن هذا السياق ،وأي محاولة لقراءته ضمن سياق مجتمع فاضل يقوده طَقم من نجوم الهداية ستكون ضحكا على الذقون .
ولأجل التنويه على هذه النكتة انطلق الشيخ السبحاني حفظه الله في كتابه بعقد مدخل لبيان الحوادث المريرة بعد رحيل النبي ص بشكل موجز وحسنا فعل اذ تصيَّد منها مبررات عدم مضي الامام علي ع في المواجهة الى النهاية والتي ابرزها ما ذكره الامام ع نفسه في الشقشقية من ان التمادي في المواجهة كان سيحدث ثلما في الاسلام اعمق من غصب الامامة .
ولأجل ابراز عمق الجريمة وضع المؤلف مقدمة علمية اخرى موجزة تكفلت ببيان منزلة الزهراء وبيتها عند الله تعالى وفي الواقع الاسلامي بالتبع .
اذا حفظت هاتين المقدمتين يكون الكلام عن رزية كشف بيت الزهراء ع في سياقه الصحيح وقد سبق التنويه الى ان المؤرخين هنا على قسمين فمنهم من أعرض عن ذكر هذه الأحداث خوفا ورهبة او تزلفا وطمعا بينما أفصح عنها آخرون بدرجات متفاوتة وقد عالج المؤلف توثيق الجريمة من خلال ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تتبع فيه من وثّق محاولة ترويع من في الدار والتهديد بحرقه فأحصى منهم 14 مؤرخا ومصنفا من أهل السنة والجماعة منهم: ابن أبي شيبة (ت253هـ) في كتابه (المصنف) روى التهديد بحرق الدار بسند صحيح على مباني اهل السنة والجماعة وكذلك البلاذري (ت279هـ) في الأنساب وابن قتيبة (ت276هـ) في الامامة والسياسة والطبري (ت310هـ) في تاريخه وغيرهم
اما المبحث الثاني: فتتبع فيه من روى ندم أبي بكر على فعلته بدار الزهراء ع ،ومن روى حرق بابها وكسر ضلعها من علماء ابناء السنة والجماعة أيضا ،فأحصى منهم 30 ما بين مؤرخ ومصنف منهم : أبو عبيد قاسم بن سلام (ت224هـ) الفقيه المعروف ،وابن سعد (229هـ) صاحب الطبقات ،والنظّام (ت231هـ) إمام المعتزلة ،والمبرد (285هـ) الاديب المعروف وغيرهم .
بينما أفرد المؤلف المبحث الثالث لذكر بعض الوثائق التاريخية التي تكشف بعض ما نال الزهراء عليها السلام من حيف وظلم واهتضام ،مسلطا الضوء على اربعة وثائق:
الأولى: إحتجاج عروة بن الزبير بفعل الخليفة الذي حاول احراق دار الزهراء ع لتبرير فعل اخيه عبد الله عندما حبس الهواشم وجمع الحطب لإحراقهم
الثانية : رسالة جوابية من يزيد بن معاوية الى عبد الله بن عمر بعد ان كتب الاخير ليزيد يذكره بعظم رزية كربلاء احتج يزيد في جوابه بان الخليفة الثاني اول من قاتل الهاشميين وغصب حقهم .
الثالثة: ما رواه البخاري في مواطن متعددة من صحيحه ان الزهراء عليها السلام غضبت على ابي بكر وامتنعت عن كلامه حتى رحلت الى بارئها وهي على هذه الحال وهنا يدرج المؤلف وثيقة اخرى وهي وصية الزهراء عليها السلام ان تدفن ليلا سرا وان يعفى قبرها والحق كان ينبغي ان تكون هذه وثيقة خامسة .
الرابعة: الخطبة الفدكية التي عنفت الزهراء فيها الخليفة لهضمها حقها وذكّرت الناس بولاية بعلها .
وفي الختام لابد من ملاحظة ان المؤلف حفظه الله قد اقتصر على الاستدلال من كتب ابناء السنة والجماعة فقط اذ من الجلي ان لا مصلحة لهم باثبات هذه الاخبار اما وقد اثبتوها فانما يدل ذلك على اشتهار أمرها وارتفاع صيتها بحيث لم يتمكنوا من اغفالها بالمرة ويرى المؤلف لو أضفنا لهذه الادلة ما ورد في كتب الشيعة لكانت المسألة من المتواترات البديهيات التي لا يتطرق لها الريب .
ولما لم يجد البعض محيصا من هذه الادلة تجده يعمد الى الموبقات فيجعلها منجيات ،ويُصيِّر الرذائل فضائل فانظر مثلا الى شاعر النيل يتغنى بهتك حرمة الزهراء ع!! :
وقولة لعلي قالها عمر ** أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرَّقتُ دارك لا أبقي عليك بها ** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير ابو حفص يفوه بها ** أمام فارس عدنان وحاميها
|