• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : من أجل الانفلات من مغناطيس الماضي .
                          • الكاتب : د . محمد شداد الحراق .

من أجل الانفلات من مغناطيس الماضي

في زمن الذرة وما أصغر من الذرة لا نزال نحكي  قصة قيس وأسطورة عنترة، وفي عصر السرعة الجنونية و الاختراعات الالكترونية ما نزال نردد حكايات شهرزاد و البطولات الخيالية. الزمن يتجه بعنف نحو الأمام ،وعقولنا وأفئدتنا تهوى الذكريات و الأزليات،و تخشى اقتحام الأبواب المؤدية إلى المستقبل.
نتغنى بأغنية التاريخ، ونردد أنشودة الماضي، و نخلد التراث، ونهرب إلى الوراء في زمن تتعقد فيه متاهات الحياة ، وتتداخل خيوطها مع آليات العصر التقنية وشبكات الاتصال المرئية و المعلوماتية.
ما نزال نلتحف عباءات شيوخ العشائر، و نتدثر برداء السنين الخوالي، ونرفض الحديث عن المستقبل، ونخاف إثارة مشاعره، ونغلق الأعين و الآذان حتى لا نصاب بالدوار إذا ما تجرأنا على الإطلالة من شرفاته العالية،لأننا لم نتعود بعد على التحليق وممارسة فعل الصعود، ولأن كل علو نقترب منه يصيبنا بحالة فقدان التوازن، و أحيانا يقذف بنا في دوامة الحيرة و اللاوعي.
لقد اكتفينا بالنبش في الذاكرة، وبدغدغة ذكرياتنا واستفزاز خلايانا لمغازلة المخطوطات ومحاورة الآثار وتصدير الفلكلور و استعراض الخيول و السيوف وإعادة إنتاج قصائد المدح و الفخر و البكاء على الأطلال. جعلنا من التراث ملاذا نحتمي به في لحظات العجز القاسية، ونصبناه إلاها جديدا نتضرع إليه كي يرد إلينا الإحساس بالمبادرة التي فقدناها ولم نحسن رعايتها. استوطنا المواقع الخلفية،و آثرنا التواري وراء جدران ثقافتنا التقليدية، لأننا لا نرى النور إلا في الماضي الزاهر، ولا نحس بالأمان إلا حينما نكون في أحضانه . نتقن الحديث عن التراث واسترجاع الأمجاد وتعظيم الآباء و الأجداد. فقدنا زمام المبادرة وجهلنا الأسلوب الجديد في قيادة المراكب.
إلى متى سنظل مولعين بترميم الحجر ومعرضين عن تنمية البشر؟ إلى متى سنظل ناسخين لكتاب الأغاني ومعجبين بمقامات الهمذاني ومتوارين خلف غربال الزمان؟ إلى متى سنظل نطل من الثقب الضيقة، ونطارد الأشعة المتسللة، ونمضي حياتنا في مداعبة ذرات الغبار ولا نجني سوى الفراغ؟ و إلى متى سنبقى نعتمر قبعة الإخفاء السحرية و هي لا تخفي منا سوى روح التغيير و إرادة البناء و مزاحمة الإنسانية في مجالات التقدم والإنتاج و التنمية؟
علينا أن نصارح أنفسنا وأن نضع المرايا الصادقة أمام وجوهنا لنرى فيها صورتنا المشروخة. لابد أن نتسلح بالشجاعة لنكسر تمثال العجز في أعماقنا. لابد أن نضع واقعنا بلحمه و عظمه و شحمه على مائدة التشريح لنستأصل منه الأجزاء المريضة و الأعضاء المتعفنة والخلايا الميتة.لابد أن نجري في شراييننا دماء جديدة فوارة تنبت لحما غيورا وعظاما صلبة وخلايا متجددة . نحتاج إلى صناعة نماذج بشرية قادرة على تحمل المسؤولية واقتحام العصر من بواباته ، ومستعدة للمشاركة في الملحمة الإنسانية الني تصاغ بأدوات العلم والمعرفة و التقنية الإلكترونية. علينا أن نعشق الحركة المنتجة و الفعل المتجدد و العطاء المكسر للرتابة و المتجاوز للسكون و النمطية. علينا أن نثبت حضورنا الحضاري بالقول الصادح  و الفعل الصالح و بالإبداع الصادم الذي يخرق المألوف و يكسر أفق انتظار العالم. فإذا استطاع الإنسان العربي الانتفاضة على الظلم و القهر و الاستبداد ، وتمكن من تأليف كتاب البطولة و الثورة حتى أصبح مرجعا للآخر في ملاحم النضال ، و استطاع أن يفرض صورته البطولية الشامخة التي سجد لها الجميع سجود اعتراف و تقدير  و انبهار، فليس من العسير أن يتحرك هذا المارد العربي ليقود مسيرة النهضة والعلم و البناء. علينا أن نستغل نسائم الحرية و رياح التغيير كي نغير من نظرتنا إلى ذواتنا، علينا أن نقتنع بأن العجز سحابة عابرة و ليست قدرا ثابتا، و بأن الريادة ممكنة ما دامت الإرادة موجودة. ولعل أول خطوة في مسيرة النهضة تبدأ من التحرر من مركبات النقص و من الشعور بالدونية ومن عقدة الآخر ، تلك الفيروسات النفسية التي طالما حجبت عنا قدراتنا الكامنة في خلايانا العربية الأصيلة التي تستعد اليوم للإخصاب و التكاثر مرة أخرى.

د/محمد شداد الحراق
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=10602
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 10 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14