فتّشت كثيراً في الكتب والمباحث حتى أجد تفسيراً حقيقياً لقضية الوراثة المهدوية فوجدت أن أغلبها تأتي على ذكر هذه المسألة في ظلّ الوجود المبارك للإمام طيلة أيام حياته، وأحسب أن هذه الوراثة حاصلة من الناحية التكوينية والوجود الواقعي لمقام القيادة والإمامة أو لسائر الخصوصيات التي تتعلّق بقضية من هذا النوع ...خاصّة وأنّ المباحث الروائية والحديثية صبّت جلّ اهتمامها على هذا الموضوع بمقتضى المنظومة الإلهية العادلة والشاملة الموعودة في آخر الزمان على لسان كل الكتب والأديان السماوية "وَكُلٌ شَرَعْتَ لَهُ شَرِيعَةً وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً وَتَخَيَّرْتَ لَهُ أَوْصِياء مُسْتَحْفِظاً بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ مِنْ مُدَّةٍ إِلى مُدَّةٍ إِقامَةً لِدِينِكَ وَحُجَّةً عَلى عِبادِكَ، وَلِئَلا يَزُولَ الحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ وَيَغْلِبَ الباطِلُ عَلى أَهْلِهِ وَلا يَقُولَ أَحَدٌ لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً وَأَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى".
إذن فمن المحتّم الوصول إلى مشروع بناء دولة العدل الإلهي على هذه الأرض ووصفها هذا إشارة إلى أن وقوع العدل الحقيقي إنما هو بيد الله تعالى وليس بيد الإنسان ..ومهما حاول الإنسان جاهداً أن يحقق العدل المرتقب فإنه لن يستطيع الوصول إلى مرحلة الكمال من الناحية التطبيقية وإنْ إدّعى ذلك عملياً.
بناء على هذا فإن الحركة الإلهية المهدوية هي حركة إصلاح ودولة عدل لا نظير لها في عالم الوجود وقد ادخرها الله تعالى لآخر الدول التي سوف تحكم العالم وغايتها نشر العدل والمحبة والمساواة ورفع الظلم بين بني البشر والقضاء على الفاسدين المقنعّين بقناع التديّن المزيّف ومكافحة الفساد السياسي والإقتصادي والإجتماعي بكل أشكاله الملتوية .
والذي يتابع النصوص يجد أنّ دولة الإمام المهدي هي الدولة الوارثة لكل القيم والتراث الذي جاء به الأنبياء والمرسلون والأئمة ( عليهم السّلام ) .
والحضارة الجديدة التي يقيمها مهدي آل محمّد ( عليه السّلام ) على وجه الأرض ليست سوى امتداد للحضارة الإسلامية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون والأئمّة الهداة ( عليهم السّلام ) ، وعودة لتلك الحضارة إلى صلب الحياة الاجتماعية من جديد ، وهي ميراث النبي والصالحين .
عن أبي خالد الكابلي ، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السّلام ) ، قال : ( إذا قام قائِمنا وضع يده على رؤوس العباد ، فجمع به عقولهم وأكمل به أخلاقهم ) .
وهذا النصّ يكشف لنا عن النضج العقلي والأخلاقي الذي يميّز المجتمع في هذه المرحلة بعد الصراع العنيف والحاسم ، بين المعسكر الإسلامي ومعسكر الشرك والنفاق .
ويحتمل أن يكون مرور الإنسان بمراحل التاريخ المختلفة ، واختيار الألوان المختلفة من الأنظمة والحضارات ، وفشل وسقوط هذه الحضارات والأنظمة
الجاهلية نظاماً بعد نظام وحضارة بعد حضارة من أسباب هذا النضج العقلي والأخلاقي الذي يشير إليه النصف الآنف .
وروي في هذا المعنى : ( أن دولتنا آخر الدول ، ولم يبقَ أهل بيتٍ لهم دولة إلاّ مَلكوا قبلنا ؛ لِئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا : إذا ملكنا سِرنا بمثل سيرة هؤلاء ، وهو قول الله تعالى : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ).
فهذه الدولة ـ إذن ـ بالإضافة إلى عصمة قيادتها تستجمع خلاصة تجارب ووعي ونضج هذه المسيرة الربانية ، والسائرين على هذا الطريق ، وَوَرد في نصٍ آخر ما يتضمّن هذا النضج العقلي بصيغ رمزية ومضمون هذا النصّ .
روى حريز عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ) قال : ( لن تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منّا أهل البيت يحكم بحكم داود وآل داود ، لا يسأل الناس بينة ) .
ومن قراءة هذه النصوص وأمثالها ، نلمس بصورة دقيقةٍ العلاقة الوثيقة التي تربط الدولة والحضارة التي يقيمها المهدي من آل محمّد ( عليه السّلام ) بالأصول والقيم والمعارف والحكم التي جاء بها الأنبياء ( عليهم السّلام ) من قبل .
إن هذه التعبيرات الواردة دليل على عموم حكومة الصالحين، وانها تطابق تماما مع احاديث قيام الامام المهدي (عليه السلام) وحركته الاصلاحية.
نعم يصعب على اولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظل حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجبرين قبول هذه الحقيقة بسهولة، وهي ان كل هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة وقوانين عالم الخلقة، وان ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين الا ان التحليلات الفلسفية تنتهي الى ان هذه الحقيقة واقعية ووجودية.
اللَّهُمَّ عَجِّلْ فَرَجَهُ وَ أَيِّدْهُ بِالنَّصْرِ وَ انْصُرْ نَاصِرِيهِ وَ اخْذُلْ خَاذِلِيهِ وَ دَمْدِمْ عَلَى مَنْ نَصَبَ لَهُ وَ كَذَّبَ بِهِ وَ أَظْهِرْ بِهِ الْحَقَّ وَ أَمِتْ بِهِ الْجَوْرَ وَ اسْتَنْقِذْ بِهِ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الذُّلِّ وَ انْعَشْ بِهِ الْبِلادَ وَ اقْتُلْ بِهِ جَبَابِرَةَ الْكُفْرِ الْجَبَابِرَةَ وَ الْكَفَرَةَ وَ اقْصِمْ بِهِ رُءُوسَ الضَّلالَةِ وَ ذَلِّلْ بِهِ الْجَبَّارِينَ وَ الْكَافِرِينَ وَ أَبِرْ بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَ النَّاكِثِينَ وَ جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ وَ الْمُلْحِدِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبِهَا وَ بَرِّهَا وَ بَحْرِهَا وَ سَهْلِهَا وَ جَبَلِهَا حَتَّى لا تَدَعَ مِنْهُمْ دَيَّارا وَ لا تُبْقِيَ لَهُمْ آثَارا طَهِّرْ مِنْهُمْ بِلادَكَ وَ اشْفِ مِنْهُمْ صُدُورَ عِبَادِكَ وَ جَدِّدْ بِهِ مَا امْتَحَى مِنْ دِينِكَ.
|